حين يعترف قطب معارض، سورياً وانتخابياً … 

قبل أيام كان أحد الأقطاب المسيحيين الأساسيين في المعارضة الحالية في مناسبة اجتماعية مغلقة. كان اللقاء في منطقة جبلية معزولة، حيث لا بشر من النوع الرقيب ولا حجر من اللون الرتيب. ما جعل الجلسة بلا قفازات ولا حصانات ولا أقنعة. وكان القطب آتياً لتوه من اجتماع لفريقه السياسي المعارض. اجتماع أعلنت فيه على المذياع المضخِّم والمضخَّم، مواقف عالية السقف، وكلام تصعيدي كبير، خصوصاً في موضوعين أساسيين: الهجوم على الحكم في سوريا، والمساهمة بإسقاطه في أسرع وقت ممكن، ورفض مشروع قانون الانتخابات النيابية الذي أقرته الحكومة الراهنة، والتأكيد على ضرورة إسقاطه في المجلس النيابي. ومن هاتين المسألتين بالذات كان طبيعياً أن يبدأ نقاش الحاضرين. سئل القطب المسيحي المعارض بداية عن الوضع في سوريا، فأجاب بعبارات عامة، خلاصتها أن القصة طويلة. وفي نهايتها؟ عندها تجهم وجه القطب أكثر من تجهمه الجدي الدائم. ترك وجهه تعتليه كل أمارات القلق، قبل أن يعلن لسائليه: أنا أخشى فعلاً ممن قد يصل إلى الحكم في سوريا في حال سقوط بشار الأسد. تذكر الحاضرون أن أدبيات الحزب العريق الذي ينتمي إليه القطب القلق، لم تكن يوماً على خصام مع الحكم السوري الحالي لأنه أقلوي أو علوي. على مدى عقود كان ثمة خطاب كامل لدى هؤلاء يقول بأن مشكلتهم مع سوريا بنيوية، لا ظرفية، تاريخية لا عرضية. كانوا يقولون إن في دمشق منذ قرون طويلة عقلاً سياسياً مركباً من خمسة عوامل معادية عضوياً للكيان اللبناني. أولاً سوريا الطبيعية التي لا تقف إلا عند حدود المتوسط. ثانياً سوريا الإسلامية التي لا تقبل بهوية بين البادية والبحر إلا أمويتها، وكل ما عدا ذلك من صنع الاستعمار الصليبي المتبدل الأسماء والثابت الهوية بالنسبة إليها. إنها سوريا الخلافة ومعركة اليرموك وحلم الغزو الذي لم يكتمل نتيجة «تمرد» جبل لبنان. ثالثاً هناك في دمشق سوريا العروبة، سوريا الوحدة من المحيط إلى الخليج، حيث لا كيانات ولا هويات ولا خصوصيات ولا تعدديات. ورابعاً سوريا الدولة الجيوستراتيجية في لعبة الشرق الأوسط، وفي حتمية إمساكها بالورقة اللبنانية من أجل تعزيز موقعها وقدرتها. وخامساً وأخيراً سوريا الحسابات الاقتصادية في أي زمن، فكيف بزمن العولمة والندرة، وهو ما يفرض عليها الأخذ من فضاء لبنان، مياهاً وسياحة وصناعة وتجارة وخوات وإتاوات وعمالة وحدوداً… وغداً غازاً ونفطاً أيضاً. كل هذا كان من أدبيات الفريق المسيحي المعارض اليوم، والمهلل حالياً لسقوط الأسد. ومن أدبياته طيلة عقود أن سوريا العلوية، كما كانوا يسمونها، تخاصم مسيحيي لبنان لتظهر مزايدتها في الحكم بمنطق الوجدان السني. فماذا إذا سقط الوكيل اليوم وحضر الأصيل؟؟ كل هذا كان حاضراً في جواب القطب المسيحي عن خوفه من الآتي في دمشق. لكن قبل أن يضيف أو يزيد، عاجله أحد الحاضرين بسؤال مرتبط: ولماذا لا تصارحون الناس إذن بهذا الواقع؟ لماذا تتصرفون وكأنكم مطمئنون إلى ما سيحصل وسيأتي؟ سكت القطب ثواني قبل أن يعترف: أصبحنا جزءاً مرتبطاً بفريق إقليمي، لا يمكننا الخروج عن خطابه في كل ما يتعلق بما حولنا!
ابتلع الحاضرون الصدمة الأولى، علقت في حناجر البعض، فحاولوا هضمها مع سؤال انتقالي إلى المسألة الثانية المطروحة: وماذا عن النسبية في قانون الانتخابات النيابية؟ ألا تشكل عاملاً لمصلحتكم كفريق حزبي؟ ألا تسمح لكم بحصد عدد أكبر من المقاعد التي تشغلون اليوم، وبواسطة مرشحين حزبيين فعليين، ومن دون منة من حليف أو شريك أو حتى صديق؟ عاد التريث نفسه إلى صوت القطب، قبل اعترافه الثاني: هذا صحيح. وقبل أن يبادره الحاضرون بأسئلة الاستنكار لتلك المفارقة، تابع بمفرده: لكننا في الداخل أيضاً جزء من تحالف سياسي فيه بيت الحريري. ونحن مضطرون لمسايرة اعتباراتهم، والأخذ بمحاذيرهم.
كان واضحاً للحاضرين أن القطب المسيحي المعارض يحاول إفهامهم ما معناه، أن الهدف هو الحصول على الأكثرية والوصول إلى الحكم. وفي لعبة كهذه كلنا نعرف أن قاطرة فريقه هي التركيبة الحريرية. يكاد يقول: نحن مجرد ملاحق، في الحساب الفعلي والواقعي. من دون تجنّ ولا اتهامات بانتفاع مالي أو تبعية سياسية. وبالتالي كما في كل قطار، هي القاطرة من يحدد الوجهة والسرعة والوصول والوقوف…
كان أحد الحاضرين يتذكر العداوة الشرسة بين القطب الذي أمامه، وبين الحريري الأب. قبل أن تجول في باله خاطرة: أي نعمة تلك لبيت الحريري وحاشيتهم، أن يحكموا البلد مرة أولى، والبعض يقول أن ينهبوه مرة أولى، استقواء بالأسد وهو في صعود، ثم يحكمون البلدمرة ثانية، وقد يُنهب مرة ثانية أيضاً، استقواء على الأسد، وهو مفترض في هبوط. نعمة كهذه لا تدوم إلا بالسياسيين من نوع الانكشارية أو المازوشيين.  

السابق
الأسد يكابر مع دنو السقوط
التالي
شيعة – فوبيا