الثورة الشاملة في مواجهة ثلاثية الزمن

لا بد ان يكون للثورة نظريتها الخاصة في احياء التراث الاسلامي بحيث لا يتم استنساخ الماضي، مما يفتح الطريق للموتى لكي يحكموا الاحياء.

صدر لي في عام 2011 كتاب بعنوان "ثورة 25 يناير بين التحول الديموقراطي والثورة الشاملة (القاهرة: الدار المصرية اللبنانية). وقد حاولت فيه أن أضع ثورة 25 يناير – باعتبارها حدثاً تاريخياً بالغ الأهمية- في السياق الدولي الذي حدثت في إطاره، وأهم ما فيه الانتقال من نموذج المجتمع الصناعي إلى نموذج مجتمع المعلومات العالمي الذي أنشأته الثورة الاتصالية الكبرى وفي قلبها شبكة الإنترنت. وكذلك في السياق المصري حيث صعدت نظرية التحول الديموقراطي ثم سقطت نتيجة ممانعة قادة النظام السابق في الانتقال من السلطوية إلى الديموقراطية.

وقد عنيت بالثورة الشاملة في الواقع ثورة مثلثة البعد. فهي ثورة سياسية تتمثل في القضاء على الاستبداد وتأسيس مجتمع ديموقراطي جديد، وثورة قيمية لا تركز فقط على إشباع الحاجات الأساسية التي يكفلها العيش الكريم، ولكنها بالإضافة إلى ذلك تهتم اهتماماً بالغاً بما يطلق عليه القيم ما بعد المادية التي تتعلق بالجوانب الروحية والمعنوية، ومن أبرزها الحفاظ على الكرامة الإنسانية. وهي ثورة حضارية تتعلق بالانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، أو بعبارة أخرى من عالم الصناعة والتكنولوجيا إلى محيط العولمة الزاخر بالتفاعلات السياسية والاقتصادية والثقافية والمعرفية.

وأريد اليوم أن أعالج موضوعاً جديداً بعد أن كتبت منذ قيام الثورة وبالتحديد منذ 27 كانون الثاني 2011 حتى الآن أكثر من ثمانين مقالة متصلة حاولت فيها تعقب أحداث الثورة أسبوعياً في تحولاتها، وأعني في صعودها وهبوطها. وليس هناك شك في أن المرحلة الانتقالية شهدت من الأحداث الجسام ما يستحق تحليلات مطولة وقراءات نقدية، وخصوصاً أنها حافلة بكثير من الألغاز التي لم نعثر على حلول لها حتى الآن.
خذ على سبيل المثال اقتحام السجون المصرية في وقت واحد، والإفراج عن كل المسجونين، وهروب فلسطينيين محكوم عليهم في حوادث إرهابية إلى غزة بعد ساعات قليلة من اندلاع الثورة. ما هي الجهات التي خططت ونفذت هذه الخطة الجهنمية، والتي ترتب عليها انفلات أمني واسع المدى مازال المجتمع يعاني منه حتى الآن؟

لقد أحسست أنني باعتباري باحثاً في علم الاجتماع بهذا الكم الكبير من المقالات التي حاولت أن تلهث وراء الأحداث المتلاحقة، أغرقت نفسي في الحاضر، وتركت تماماً قضية المستقبل، والذي أكثرت من الحديث عنه قبل الثورة حين طرحت أهمية صوغ رؤية استراتيجية لمصر. ولذلك أدركت أنه آن الأوان لأقول للحاضر وداعاً، وأتوجه إلى المستقبل لأقول مرحباً!

بعبارة أخرى الثورة حتى تكون شاملة حقاً لابد أن تأخذ موقفاً واضحاً من ثلاثية الزمن التقليدية وأعني الماضي والحاضر والمستقبل. ولنبدأ أولاً بالموقف من الماضي.

لو فحصنا الاتجاهات الرئيسية للتيارات السياسية في ما يتعلق بالماضي لوجدنا اتجاهين رئيسيين. الاتجاه الأول تتبناه التيارات الدينية – على اختلاف في ما بينها في مجال الاعتدال والتطرف – يركز على أهمية إحياء التراث الإسلامي، حتى يكون ذلك مرشداً حضارياً للنهضة المرتقبة.

ويرى بعض هذه التيارات الدينية وفي مقدمتها جماعة "الإخوان المسلمين" أن إحياء التراث لا يمكن أن يتم إلا إذا استرد المسلمون "الفردوس المفقود" وأعني نظام الخلافة.

وقد شهدنا في الفترة الأخيرة تصريحات للمرشد العام للإخوان المسلمين يقول فيها صراحة أن حصول حزب الحرية والعدالة الإخواني على الأكثرية في مجلسي الشعب والشورى، دليل على أن حلم الشيخ حسن البنا مؤسس الجماعة قد قارب على التحقيق، وهو إعادة تأسيس نظام الخلافة من جديد.

وزاد الدكتور صفوت حجازي أحد المتحدثين باسم الجماعة المسألة إيضاحاً حين قال ستتحول مصر مجرد ولاية إسلامية في نظام الخلافة، والتي ستكون القدس عاصمتها التي يحكم منها الخليفة العالم الإسلامي من مشرق العالم إلى مغربه!

غير أن هناك اتجاهات دينية أخرى لا تصل في تطرف دعواتها إلى هذا المدى، وضعاً في الاعتبار أن عصر الدولة الدينية قد ولى وراح، وأن النظام الدولي لن يقبل بمثل نظام الخلافة، بالإضافة إلى أنها دعوة خيالية غير واقعية، تدل على السذاجة المفرطة للمنادين بها، وجهلهم الفاضح بمكونات النظام الدولي الراهنة.

ولذلك هم يركزون على هدف يرونه أقل طموحاً وأكثر واقعية، وهو تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية كما كانت تطبق في ماضي الدولة الإسلامية، أو بالعبارة الدارجة تطبيق شرع الله باعتباره سبحانه وتعالى الخبير العليم، الذي تسمو خبرته وعلمه على الناس أجمعين.

وبالرغم من أن الدستور المصري لعام 1971 ينص في مادته الثانية على أن "مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع"، والخطاب هنا موجه للمشرع وليس للقاضي، إلا أن أصحاب الدعوات السابقة يريدون تعديل المادة ووضع عبارة الأحكام بدلاً من المبادئ. ويتجاهل أصحاب هذه الدعوات المسرفة في تبسيطها أن أحكام الشريعة الإسلامية مطبقة فعلاً في مصر! الأحوال الشخصية للمسلمين تطبيق بارز للشريعة، كما أن القانون المدني المصري الذي وضعه الفقيه القانوني العظيم "عبد الرزاق السنهوري ليس فيه إطلاقاً ما يتعارض مع الشريعة.

ومن هنا فإن المنادين بتطبيق الشريعة يحشرون أنفسهم حشراً في خانة بالغة الضيق، وهي تطبيق الحدود التي لا ينص عليها قانون العقوبات المصري، وخاصة حد السرقة وهو قطع اليد وحد الزنا وهو الرجم. وكأن هؤلاء الذين ينادون بتطبيق الحدود يصورون الشريعة الإسلامية كأنها شريعة عقابية، لا يشغلها سوى قطع أيادي اللصوص بالرغم من تردي الأوضاع الاقتصادية، ورجم الزناة بالرغم من أن شروط توقيع هذا الحد تكاد أن تكون تعجيزية وغير قابلة للتحقيق في الواقع.

لا يفهم هؤلاء أن الحدود – كما ذهب إلى ذلك أبرز فقهاء القانون الجنائي- عقوبات تهديدية وضعت للردع العام وليس للتطبيق. وينسى هؤلاء أن الخليفة عمر بن الخطاب رفع حد السرقة عام المجاعة، تقديراً منه لأهمية مراعاة شروط الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وتلك قيمة عليا من قيم المنظومة الإسلامية الرفيعة.

في ضوء ذلك كله لابد لثورة 25 يناير إن أرادت أن تكون ثورة شاملة حقاً أن تتبنى موقفاً إيجابياً إزاء قضية إحياء التراث الإسلامي، وأن ترفض بكل قطعية الأفكار الوهمية عن إحياء نظام الخلافة، وألا تنصت لأصحاب الأصوات العالية الذين ينادون بتطبيق الحدود.

غير أن موقف الرفض لا يكفي، وذلك أنه لابد أن يكون للثورة نظريتها الخاصة في إحياء التراث الإسلامي للتركيز على أبرز إيجابياته في القيم والسلوك، بحيث لا يتم استنساخ الماضي، مما يفتح الطريق أمام الموتى لكي يحكموا الأحياء! 

باحث مصري

  

السابق
بشّار قاتل الأبوين؟
التالي
الثورة تخطىء لكنّها الصحّ الأكبر