واشنطن والخلاف على جلد الأسد

تكثر في هذه الأيام حملات المحافظين الجدد في واشنطن، على إدارة أوباما وسياسته الخارجية. وعنوانها الأبرز اتهام البيت الأبيض بأنه لم يحسم قراره بإسقاط بشار الأسد. وقد يكون ما كتبه فؤاد عجمي رداً على هيلاري كلينتون المثل الأسطع في هذا السياق؛ إذ حرص عجمي على «تتفيه» البحث الذي كانت وزيرة الخاريجة الأميركية قد كتبته قبل أيام، لتمجيد أداء إدارتها في الملفات الخارجية، تحت عنوان «القوة الذكية»، قاصدة به افتتاح عصر جديد باسمها في الدبلوماسية الدولية، بعد عصر جوزف ناي و«القوة الناعمة». المهم أن المحافظين الجدد يحاولون القول للإدارة الأميركية الراهنة عشية انتخاباتها الرئاسية: نحن أسقطنا صدام حسين سنة 2003، أنتم عجزتم عن إسقاط بشار الأسد اليوم. واسم عجمي معبّر في هذا السياق؛ فهو من أبرز منظري احتلال العراق في حينه، وصاحب نظرية «اجتثاث البعث» في البلدين.

غير أن العارفين بطريقة عمل «المؤسسة الأميركية» يقولون إن في الإدارة الحالية رأياً آخر واعتبارات مختلفة عما يريده «النيو كونز». طبعاً هناك لائحة العبر التي خرجت بها واشنطن من حرب العراق، وهي لائحة ثقيلة وستظل فاعلة في العقل الأميركي طويلاً. لكن ثمة عوامل أخرى تفرض القراءة المتباينة لواشنطن بين وضع كل من بغداد ودمشق. بداية هناك أفق كل من البلدين في حال سقوط النظام. في العراق كان واضحاً أن الأميركيين ذاهبون إلى نظام عموده الفقري الأكثرية الشيعية، وهي الطائفة المسلمة التي بدا وكأن واشنطن اقتربت منها في مناخات ما بعد 11 أيلول. فجاء منها إلى واشنطن أحمد جلبي لتهيئة مرحلة الحكم الانتقالي، وكنعان مكية لكتابة الدستور العراقي الجديد، وعجمي نفسه للتسويق والترويج. كان الأميركيون يعتقدون، بمعزل عما ثبت لاحقاً، أنه بعد إسقاطهم صدام، ستكون ثمة أكثرية شعبية ثابتة وجاهزة للتعاون معهم، وهي أكثرية غير مرتبطة بتنظيمات الإرهاب الذي دفع واشنطن أصلاً إلى شنّ تلك الحروب من كابول إلى بغداد. أما في دمشق، فالاعتقاد الأميركي مختلف؛ إذ يخشى أهل واشنطن أن سقوط بشار الأسد بعد الاستنزاف الطويل الذي فرضه، سيجعل سوريا في أيدي أكثرية من انتماء متقاطع مع الجماعات الإرهابية، أقله مذهبياً.

ثانياً في الحالة العراقية، كان واضحاً أن واشنطن مرتاحة سلفاً إلى احتواء المسألة الكردية هناك، وهو ما كان يطبخ مع البرزاني قبل عقد ويدرس علناً في مؤتمرات دافوس، بحيث لا يؤدي سقوط صدام إلى تفجير مشكلة كردية، وخصوصاً في الجانب التركي. بينما في الحالة السورية يبدو الوضع معاكساً. أوجلان هنا بدل البرزاني، وبالتالي مشكلة مع أنقره، لا حل على طريقة إربيل، مع ما يعني ذلك من مخاطر على كل المنطقة.
ثالثاً في العراق كانت كلفة الحرب مضمونة وبدل أتعابها جاهزاً. فالنفط العراقي كان وحده كافياً لإنضاج قرار الاحتلال. بينما سوريا عاجزة عن سداد ثمن اجتياحها، ولو بدا بعض الخليجيين مستعداً لذلك.
يبقى عامل أخير، أن العراق ليس على تماس مع إسرائيل، التي احتملت يومها تجربة نظرية ساتلوف حول «الفوضى البناءة» في بغداد. أما دمشق فهي على مرمى حجر من الجيش المقهور في وادي الحجير وفي غزة، الذي بقدر ما يفهم المكاسب الاستراتيجية من سقوط بشار، يشدد على ضرورة معرفة ما بعده مسبقاً.

ويتابع العارفون بشعاب واشنطن، أن الطرفين المعنيين فيها بالأزمة واعيين لهذه العوامل، وهو ما جعل تباينهم ناعماً. والوعي نفسه لم يلبث أن تسلل إلى المعارضين السوريين المرتبطين بالمؤسسة الأميركية، وتحديداً الشق غير «الإخواني» ضمن «المجلس الوطني السوري»؛ فهؤلاء في معظمهم من إنتاج الرحم الأميركية وتركيباتها «البحثية» المتعددة الأسماء والموحدة القرار. هكذا راح بعض هؤلاء يشعر بأن واشنطن تخلت عنهم، أو على الأقل فرملت عملهم. حتى إن كلينتون في زيارتها الأخيرة لأنقرة لم تلتقهم. لا بل بدأ هؤلاء يشعرون بأن انكفاء واشنطن لم يعد يغطيه اليوم إلا اندفاع الخليجيين في معركة إسقاط بشار. لكن اندفاع هؤلاء يحمل عناوين أخرى غير عنوانهم، وأولويات أخرى غير أولوياتهم. فمع «المجلس الوطني» الغربي الهوى كانت وسائل الصراع الحرب العسكرية والدبلوماسية المفتوحة. أما مع القرار الخليجي في الحرب على سوريا، فتحولت الوسائل إلى العمل الأمني، بشقيه: اغتيالات أركان النظام، أو إغرائهم بالانشقاق. لذلك لم تكن مصادفة أن تروج السعودية لصور مناف طلاس يؤدي مناسك العمرة في ضيافتها، أو تسوق قطر لزيارة رياض حجاب إليها بعد هربه من دمشق. كأن تغييراً قد طرأ في موقع قيادة الحرب، نتج منه تغيير في تكتيكاتها، وبالتالي في أدواتها والأسماء. استقالت بسمة قضماني وقطع سيدا الطريق اسمياً على توزير طلاس وحجاب، واختلف المصطادون على جلد الأسد، قبل اصطياده.  

السابق
إحتفالية بشير الجميل: أين فلسطينيته؟
التالي
بعيدا عن الانحياز