منع التدخين.. يؤدي إلى أمراض خطيرة

الثالث من أيلول المقبل هو موعد تطبيق قرار منع التدخين في الأماكن العامة المغلقة. قرار قوبل بالترحيب من الناشطين الساعين إلى الحد من مخاطر التدخين. لكنه أيضاً أثار موجة من الانتقادات التي وجدت فيه مناسبة للتهكم من الدولة و"عقليتها". بعض هذه الانتقادات تبدو جادة في رفضها للقرار، مستندة إلى تبريرات خاصة لا تتوقف عند مجرد السخرية. لمياء وكريم وإسحاق ثلاثة مدخنين يحكون عن خلفية القرار من وجهة نظرهم..

خطر الموت

"السيجارة خطر حقيقي ومميت. اكتشفت الدولة ذلك مؤخراً، وقررت حمايتنا من هذا الخطر بينما كانت تسلّم هيبتها إلى المتقاتلين بالرصاص والقذائف. فعلت ذلك قبل الآن، بطريقة كوميدية أيضاً. يومها كان المواطن يخشى في بعض الأحيان مجرّد عبور شارع. لكنها استفاقت على أن حزام الأمان أكثر أهمية من أي أمر آخر. ومن منطلق رفضها للاستهتار بحياة مواطنيها، سيّرت دوريات أمنها لضبط المخالفين وفرض غرامات مالية عليهم. رادارات السرعة التي أمنت مردوداً ضخماً من أموال المخالفات كانت أيضاً لحماية أمن المواطن وسلامته..".
تجري لمياء هذه المقارنات لا لتنكر أهمية هذه الإجراءات، نظرياً على الأقل، بل لتثبت وجهة نظرها: تتصرف الدولة وأجهزتها بطريقة مثيرة للسخرية. كيف نفسر إذاً تطبيق قرار منع التدخين في الوقت نفسه الذي يكاد دخان الاشتباكات المسلحة والإطارات المشتعلة يخنق البلد كله؟ كيف نفسّر الخوف من خطر التدخين والاستهتار بالمخاطر التي يهددنا بها تجّار الغذاء والدواء والصحة من دون أي رادع؟
ليست المشكلة فقط في التزامن بين أحداث تفصل بينها مسافات هائلة على سلم أولويات المواطن. تتابع لمياء تحليل موقفها: المشكلة أصلا في هيبة الدولة. قرار "بسيط" كهذا يحتاج إلى أجهزة تطبقه وتحميه. هل تصدق أن شرطياً أو مراقباً رسمياً يمكن أن يرغم أحداً على التقيد بالمنع؟ هل تضمن عدم إلغاء المخالفات باتصال واسطة واحد؟ ثم، فلتقم الدولة إن كانت جادة بتطبيق القرار في طرابلس مثلا أو في أي منطقة لا تخضع لسلطتها.
والنتيجة؟ كلما زادت الدولة من فرص تجاوز قوانينها، كلما ساهمت في موت سلطتها وهيبتها بنفسها.

خطر الفساد

المؤامرة مستمرة. وليس منع التدخين سوى أحد صورها الكثيرة الواضحة. القصة إذاً أبعد من مجرد قرار اتخذه المشرّع ليحمي غير المدخنين من المدخنين. هي مؤامرة يفسرها كريم على مرحلتين: دوليّة ومحليّة.
في المؤامرة الدولية، يشرح: لا أعرف كيف انتشرت ظاهرة التدخين تاريخياً، لكن في مرحلة ما، سيطرت "مجموعة مصالح" على شركات التبغ. ولكي تزيد من انتشار الظاهرة عمدت إلى الاستعانة بخبراء الكيمياء لزيادة قدرة السيجارة على الإدمان. الخطوة التالية كانت من مهمة شركات الإعلام والإعلان التي حققت أرباحاً هائلة من الترويج لمنتجات هذه الشركات. لاحقاً، جاء دور المشرّع الذي قرر رفع الضرائب والرسوم على السجائر، ثم في مرحلة لاحقة منع التدخين في الأماكن العامة وفرض غرامات كبيرة على المخالفة. الطرف الذي يدفع من جيبه فعلاً في هذه الحالات هو المواطن. أما باقي الأطراف كلها فيضعها كريم في سلّة واحدة: شبكة مصالح تتفق فيما بينها على توزيع الأدوار لجمع الأرباح!
في لبنان، مؤامرة محلية أقل تعقيداً: تجار التبغ يحققون أرباحاً مرتفعة، فرضت الدولة ضرائب عليهم فاستفادت، ثم منعت التدخين في الأماكن العامة لتخلق "اقتصاداً" يخدم فئة جديدة: المرتشين!
يظن كريم أن القرار يخفي مجموعة مصالح متقاطعة لم يكتشف الروابط السريّة فيما بينها بعد، لكنه واثق من أن المخولين مراقبة التنفيذ سيكونون أول المستفيدين، من خلال "التسويات" التي سينجزها هؤلاء مع أصحاب "الأماكن المغلقة"، من مطاعم وملاه وغيرها، لغض النظر عن المخالفات.
والنتيجة المتوقعة من "مؤامرة" كهذه تفوق برأيه مضار التدخين: التشجيع على الفساد!

خطر الاختناق

لا يحتاج إسحاق إلى هذه "المناهج" في التحليل ليثبت وجهة نظره. موقفه ينطلق من تفسيرات تأخذ معنى "فلسفياً" بحسبه.
يرى إسحاق أن منع التدخين في الأماكن العامة المغلقة يتعارض مع مبادئ أساسية يؤمن بها. لن تقنعه أبداً مقولة الحرص على سلامته، ولن تثير عبارة من نوع "التدخين سبب رئيسي للأمراض" سوى الضحك. يعرف كل ذلك. و"عن قناعة ومعرفة"، اختار أن يكون مدخناً.
يشبّه إسحاق دور الدولة هنا بدور الأب أو الأخ الأكبر: "التدخين مضر بصحتكم، لذا سنمنعه! من قال إننا نريد ذلك؟ من وضع الدولة رقيباً على صحّتنا؟ من حقي، طالما أنني لست قاصراً، أن أختار ما أريد".
لن ينفع هنا التذكير بأن القرار لا يمنع التدخين بالمطلق، بل يحدّ منه، وتحديداً في أماكن يتشارك المدخن فيها مع غير المدخن الهواء نفسه. "ليس من حق أحد تنظيم علاقتي بالمحيط من خلال القمع. فليتركوا لنا مهمة تنظيم علاقاتنا. فأنا مثلاً لن أدخن بالقرب من أي شخص يرفض ذلك. لن أنتهك حقه، ولكن لا أريد لأحد أن ينتهك حقي بفعل ما أشاء".
تحتاج "نظرية" إسحاق إلى مثل واقعي لفهم أبعادها: "لنفترض أنني أسهر في حانة مثلا، ورغبت بشرب كأس مع سيجارة، ولم يمانع الساهرون ذلك، كيف يحق للدولة أن تمنعني؟ أليس في ذلك انتهاكاً للحريّة؟ قرار كهذا يفتح النقاش على مفاهيم الديموقراطية والأغلبية والأقلية. منع التدخين يشبه في هذه الحالة "حكم الأقليات" وليس فقط حمايتها. ثم من يضمن أن لا يتكرر هذا المنع في مسائل أخرى. غداً يقولون إن الكحول مضرّة وتؤذي الذوق العام في مجتمع ما أو منطقة محددة، فيشرّعون منعها. وقد يفعلون ذلك يوماً ما مع طريقة اللبس والأكل والحديث والعلاقات، طالما أن المعيار الذي يفصل بين العام والخاص ويحدد مفهوم الأذية ليس واضحاً".
هكذا، يخلص إسحاق إلى أن أخطر ما في القرار هو استدراج الفرد إلى قبول ما تفرضه سلطات الأمر الواقع، خلافاً لإرادته الحقيقية!

شماتة.. بعد طول انتظار

يشنّ أنصار التدخين حرب مواقف على القرار ومؤيديه. هؤلاء يتهمون بالشماتة في أحسن الأحوال. تهمة لا تنفيها كارول التي ذاقت طويلا من استهتار زميلها في العمل بصحتها.. ومشاعرها. لم يكن المتهم يتوقف عن "جريمته" إلا في حالات مرض كارول.. أو عند نوبات غضبها التي لم تكن تستطيع أن تكبتها دائماً.
خاضت كارول وزميلها مواجهات طويلة حَكَم في ختامها صاحب العمل لصالح المدخن. هو أيضاً شريك في الاستهتار بها. اليوم، تستعد للانتقام. أيام قليلة وستشمت منهما بكل ما أوتيت به من شرّ، كما تشرح فرحة.
من العمل إلى المقهى والمنزل، كادت كارول أن تفقد القدرة على التنفس. أكثر ما كان يثير غضبها من بين المدخنين هو "جغل السيجار". تفقد الفتاة المرحة ابتسامتها بينما تتساءل كيف يمكن أن يفعل أحد ذلك في مكان مغلق. تشتعل غضباً كلما أشعل أحدهم سيجاره، من دون أن يراعي مشاعر الحاضرين. غالباً، جلسات السيجار الفاخر هذه يشترك فيها أكثر من مدخن واحد. في حالات كهذه تستسلم كارول في العادة. لن تستطيع فعل شيء طالما أن القانون وصاحب المقهى يقفان ضدها. تعود إلى مرحها وهي تروي كيف ستتمكن بعد أيام قليلة من الصراخ في وجه من يجرؤ على تعكير صفو جلستها بدخان سجائره، مدعومة بقانون يحميها.
المنزل هو المكان الوحيد الذي لن تستطيع تسجيل الانتصار فيه. ستظل رائحة الدخان الدبقة عالقة في ملابسها المعلقة في غرفة تتقاسمها مع زميلة السكن. هذه الأخيرة لا تكاد تنهي سيجارة إلا وتشعل ثانية. والحل الذي تقترحه الزميلة دائماً: "افتحي الشباك". لا مفرّ إذاً من دفع الثمن: البرد شتاءً والهواء الرطب صيفاً.  

السابق
اعتذار مستحق.. إلى السيد موسى الصدر
التالي
كلمات سلمان العنداري القاتلة