أي عدم انحياز وأي انحياز الى الشعوب؟

المعادلة تبدو سوريالية في حركة عدم الانحياز: العنوان ثابت والكتاب متغيّر. فما كان ضرورة لشقّ طريق ثالث خارج الاستقطاب الدولي عاش على الصراع بين الجبّارين الأميركي والسوفياتي. وما كان العنوان الجذّاب لقصة سياسية واقعية في القرن العشرين بقي العنوان المستعار لقصة أخرى في القرن الحادي والعشرين. الأولى غاب مؤلفوها الكبار واكتملت فصولها بنهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي. والثانية لا يزال مؤلفوها الجدد يبحثون عن فصول لها في مشهد مختلف. وفي الحالين فارق كبير بين الخط المستقيم المرسوم لحركة عدم الانحياز وبين الخطوط المتعرّجة لسياسات الدول الأعضاء فيها.
ذلك ان الحركة التي ولدت في عزّ الصراع بين الجبّارين لم تكن خالية من بعض ما يناقض عنوانها، ولا خارج حماسة موسكو وبكين وقلق واشنطن. فهي ضمّت ثلاثة أنواع من الدول ليست على مسافة واحدة من الجبّارين: دول قريبة من الاتحاد السوفياتي وأخرى حليفة له مثل كوبا وكوريا الشمالية، وهي تخدم سياسته ودول قريبة من أميركا أو حليفة لها وتخدم سياستها. ودول تلعب بين الجبّارين وتفيد كلاً منهما بالمفرّق، لتضمن موقعها ودورها بالجملة. وهذا ما دفع الرئيس الحص الى القول في واحد من تعبيراته البليغة ان دول عدم الانحياز هي دول العدم والانحياز.

وحين وجدت الحركة نفسها قرب خط النهاية بعد سقوط جدار برلين وتبدّل المشهد الدولي، فان الخيار أمامها كان واحداً من اثنين: إما التسليم بأن الحركة فقدت مبرّر وجودها، واما البحث عن معنى جديد وعنوان جديد لدور آخر. لكن ما حدث هو الهرب من الخيار الأول، والعجز عن الترجمة العملية للخيار الثاني.
والتحدّي بدأ قبل قمة طهران والمواضيع الصعبة المفروضة عليها والطموحات الواسعة لبعض أركانها. ومن حق طهران ان تعطي للقمة وظيفة اضافية هي تأكيد كون الجمهورية الاسلامية ليست في عزلة دولية. ومن حقّها أيضاً، ومعها دول عدّة ان ترى في الحضور الاقليمي والدولي للقمة نصراً على الاستكبار العالمي. لكن من واجب الجميع التسليم بأن شعوب الدول الأعضاء في عدم الانحياز تحتاج الى أشياء مهمة الى جانب مواجهة الاستكبار. فلا شيء يكمل الممانعة لسياسة أميركا سوى بناء أنظمة ديمقراطية والنجاح في التنمية الاقتصادية ونوعية التعليم. ولا معنى لعدم الانحياز ان لم يكن الوجه الآخر له هو الانحياز الى الشعوب وحرياتها ومطالبها المشروعة.
والمفارقة التي ليست سراً هي ان اللعبة مزدوجة مع أميركا: العداء لها والبحث عن صفقات معها. وليس هذا هو الشذوذ بل القاعدة بالنسبة الى دول عدم الانحياز.   

السابق
3 خطوات لشفاه متلألئة
التالي
التقاعس الأميركي في سوريا