صدام الحضارات وثقافة التكفير

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي 1989 ونهاية الحرب الباردة، برزت أميركا قطباً أحادياً مهيمناً على العالم. كان مفترضاً تراجع وتيرة الحروب بعد زوال العدو الأكبر للإمبريالية الأميركية، لكن ما حصل هو عكس ذلك تماما .
لم تكتف أميركا بإشعال عدد كبير من الحروب المتنقلة، بل هيأت المناخ لحروب مفتوحة في الزمان والمكان، وهيأت المؤسسات والأدوات والأفكار اللازمة لتحقيق أغراضها .
ثمّة مصلحة كبيرة للمركّب العسكري الصناعي في استمرار الحروب، ولفرض الهيمنة الاستراتيجية ومنع قيام أي منافسة لأميركا نظراً إلى الموارد الكبرى التي تحققها المصانع الاميركية من مبيعات الأسلحة.
مصلحة الإمبريالية الاميركية تكمن في الحروب والصراعات والفتن خارج دائرتها، لذا هي بالفعل عدوّة السلام.

ويغلّف الصراع على المنافع والخيرات وما يمكن تسميته بالصراع على المصالح بقناع سميك من الأفكار والنظريات، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو دينية. ويبدو في الظاهر أن هذه الافكار هي لفلاسفة أو مفكرين يدرسون الواقع بطريقة علمية ولا علاقة لهم بأهداف سياسية أو مصالح خاصة. لكن في الواقع، ترتبط هذه الأفكار بأشخاص ذوي صلة بمؤسسات وسياسات لها مصالح وأهداف واضحة ومحدّدة. وبغض النظر عن قربهم أو بعدهم عن صنع القرار، فإن الادارة السياسية تعمل على تشجيع الأفكار التي تراها مناسبة لعملها ومصالحها، وعلى محاربة الأفكار التي تجد فيها ما قد يسيء إليها .
مقولة «صدام الحضارات» لصاموئيل هانتغتون نشرت عام 1993 في مقال في مجلة «فورين أفيرز» ، ثم في كتاب عام 1996 تحت عنوان «صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي». وانتشرت أفكار ونظريات أخرى حول نهاية التاريخ والعولمة ونهاية الدولة القومية والإرهاب.

منبع كل هذه الأفكار أميركا، من قبل مفكرين مرتبطين بدوائر السياسة الخارجية الأميركية، ويتبعهم سيل من المفكرين الأوروبيين والعرب وغيرهم الذين يجترّون مفرداتهم ومصطلحاتهم. فمقولة «صدام الحضارات»موجهة أساساً إلى المجتمع الأميركي والمجتمعات الغربية لإثارة مخاوفه من الحضارات الأخرى المعادية بطبيعتها، كما صنّفها هانتغتون، وعلى رأسها الحضارة الإسلامية وتليها الحضارة الصينية. استثمار المخاوف يجعل الشعب ينقاد طائعاً خلف سياسة حكومته مهما تكن بعيدة عن مصالحه ولا تخدم إلاّ أرباب الصناعة والمال والنفط. أخفى «صدام الحضارات» الصراع الحقيقي وهو صراع مصالح بين الجماعات ضمن المجتمع الواحد، كما هو صراع مصالح بين الدول والمجتمعات، وربط الصراع بطبيعة ثابتة للحضارات المتكوّنة عبر التاريخ.

رغم معاداتها للنص الإنجيلي والقرآني، فإن ثقافة التكفير مورست في كل الأديان والطوائف والمذاهب، الى جانب ثقافة الانفتاح والتسامح، وإن بنسب متفاوتة وفق المراحل التاريخية والمجتمعات. كما أنها موجودة في أشكال التعصب والشوفينية في كثير من الأفكار والنظريات السياسية والممارسات الحزبية الفجّة التي تنطلق من امتلاك الحقيقة المطلقة وتجهيل الآخر وتكفيره.

في المجتمع السوري ظلّت ثقافة الانفتاح هي الغالبة،وشكّلت ثقافة التكفيرخروجاً على السياق وحالات شاذة. وفي إطار حروب الغرب المفتوحة على سورية، شكّل التقسيم العنوان الأبرز والمقدّمة الضرورية للاغتصاب والاحتلال . وبعدما استنفد تقسيم سايكس بيكو أغراضه، ووصل الكيان الصهيوني الى مأزق وجودي، تستكمل الحرب على سورية في محاولة ضرب عوامل وحدتها وقوتها وإزالتها.
كان احتلال العراق وإلغاء جيشه عام 2003 ، ثم الحرب الفاشلة للقضاء على المقاومة في لبنان عام 2006 والحرب المفتوحة على سورية منذ نحو سنة ونصف سنة، بيد أن السلاح الأقوى الذي تستخدمه أميركا في هذه الحرب والمكمّل لصدام الحضارات والموجّه الى الخارج وخاصة إلى سورية والعالم العربي والإسلامي هو سلاح «ثقافة التكفير» التي يتمّ إحياؤها عبر توظيف دعاتها وإنشاء مؤسساتها وصرف الأموال الطائلة لنشرها بكل الوسائل.
هنا تلعب «ثقافة التكفير» دوراً أخطر مما تلعبه القنبلة الذرية.
في هذه «الثقافة» المدعومة سعودياً وقطرياً وتركياً وبإدارة أميركية، لم يبقَ في هذه المنطقة شعب ولا وطن ولا حضارة. ثمة مذاهب وطوائف وإتنيات فحسب، وإعلام طائفي ودعاة يعيشون في أحقاد الماضي السحيق وينبشون القبور ويوقظون كل ما يدعم الفتنة ويؤججها .

تنبش فتاوى ابن تيمية ضد النصارى والفرق الاسلامية غير السنية، وبخاصة العلوية، وتعميمها عبر الإنترنت وصفحات «فيسبوك»، فلنستمع الى المحطات الطائفية التي أنشئت لنشر ثقافة التكفير، ولنقرأ صفحات «فيسبوك» وصفحات المجموعات الطائفية وراقبوا التعليقات العنصرية والطائفية الحاقدة، ولنراقب كيف تدعم وتموّل الأحزاب والتيارات الدينية، السلفية والمتطرفة منها بشكل خاص، ولنراقب كيف يُجمع مقاتلو القاعدة من كل البلدان،برعاية اميركية وتنفيذ ودعم تركي وقطري وسعودي.
حرف الصراع عن الاتجاه الصحيح يستلزم «صدام الحضارات» القائم على أساس الهويات الدينية وطمس أشكال الصراع الحقيقي التي تضمن الوصول الى الحقوق الطبيعية للناس والحقوق القومية والوطنية للشعوب.

«صدام الحضارات» مع التخويف من حضارات معينة ووصمها بالإرهاب، أطلق يد أميركا في العالم كله في حروب لا مصلحة للشعب الاميركي فيها . ثمة مصالح الطبقة السياسية الإمبريالية المهيمنة فحسب. و»ثقافة التكفير» هي من عائلة «صدام الحضارات» وتساهم على نحو فاعل في دعم أهداف السياسة الإمبريالية وتسهيل مهمتها في تفتيت العالم العربي. ودعاة التكفير يحافظون على المظهر وعلى طقوس الطهارة الخارجية ويتجاهلون نقاوة القلوب والعقول وانفتاحها. التلوّث العقلي هو أخطر أنواع التلوّث، وهو مرض يزداد انتشاراً في العالم العربي. وادعاء الحقيقة المطلقة وربطها بالمقدّس والمقدّسين والزام الآخرين بها أخطر وأصعب ما يمكن مواجهته وقد يدفع الى حروب إلغاء متبادلة ، فكل مجموعة ضمن «الثقافة التكفيرية» تفرخ جماعات تدعي كل منها أنها تمتلك الحقيقة المطلقة. المجرم الحقيقي ليس من ينفّذ أعمال الاجرام بل من يدفع إليها، و»ثقافة التكفير» هي الدافع للإجرام وحروب الإبادة. تعلمنا الطبيعة أن التنوع هو الأساس في كل شيء وفي كل شكل من أشكال الحياة. لا وجود لحقائق مطلقة، لا في الدين ولا في السياسة ولا في الاجتماع، ولا حتى في العلم الذي أثبت في الواقع الملموس قوة حقائقه. الحقائق نسبية، والنسبية هي المطلق الوحيد.

نحن شعب واحد ليس لأننا من أصل واحد أو لأننا من دين واحد ومذهب واحد . نحن شعب واحد لأننا نشترك في حياة واحدة مثلما اشترك آباؤنا وأجدادنا فيها منذ فجر التاريخ. كنا جميعاً في سورية قبل المسيحية وقبل الإسلام وفيها أقمنا أسس الحضارة والانفتاح وقيم الحق والخير والجمال، ولن تستطيع «ثقافة التكفير» أن تسود في مجتمع أعطى العالم كله رسالات المحبة والسلام.  

السابق
عاجزون عن العيش بسلام؟
التالي
غارات إسرائيلية على مواقع لـحماس في غزة