عن نظرية المصيدة التي وقعت في مصيدة

على وقع الصمت المطبق الذي يسجّله حزب الله في ملف ميشال سماحة، وعلى وقع انتظار بعض حلفاء سماحة القضاءَ كي يقول كلمته، وعلى وقع الإرباك الذي أصيب به النظام السوري جرّاء قلّة احتراف اللواء علي مملوك وسماحة، وهو إرباك أدّى حتى داخل النظام، إلى إطلاق العنان لدى قادة الأجهزة الأمنية الأخرى لمشاعر الشماتة والسخرية، بزميل استسهل تنفيذ عملية أمنية خطيرة تبيّن أنّها مكشوفة، وأنّها غير محميّة.

على وقع كلّ ذلك يستمرّ البعض في لبنان من قانونيّين وشخصيات موالية للنظام السوري، في التسويق لنظرية المصيدة التي نجح فيها المخبر ميلاد كفوري، باصطياد سماحة "وإقناعه بعد جهد" بأن يساعده في استهداف المعارضين السوريّين في لبنان، وفي القيام بتفجيرات في الشمال لتحقيق هذا الهدف.

ليس صعباً توقّع أنّ من يسوّقون لنظرية المصيدة، يدركون أنّهم أوقعوا أنفسهم في مصيدة أكثر وضوحاً، ولكن ما العمل بالنسبة لهم، فالخيارات الأخرى للدفاع عن سماحة لم تعد موجودة، وبات من الضروري اللجوء إلى نظرية المؤامرة الهوليودية، التي يحاول أصحابها عبثاً في دفاعهم عن ناقل العبوات وواهبها، أن يخترعوا معايير علمية جديدة لتكذيب حاستَي النظروالسمع، بحيث يصبح فيلم سماحة الموثّق تركيباً تقنيّاً، ومن يدري ربّما يصبح صمت حزب الله مؤامرة على سماحة، أو ربّما يصبح انكشاف سماحة مجرّد تضحية من النظام بأحد أبرز حلفائه اللبنانيّين، لانتفاء الحاجة إلى التعامل معه.

وبالطبع فإنّ الوقائع القديمة والحديثة في ملفّ سماحة، لا تسمح لمروّجي نظرية المصيدة بأن يذهبوا بعيداً في تفاؤلهم بإمكان التشويش على الرأي العام.

فلو كان ميلاد كفوري نصب مصيدة حقيقية لسماحة، لكان زلزال من نوع آخر قد ضرب فرع المعلومات، ولكان تحوّل تحذير الحاج وفيق صفا، الذي اتّصل بعد دقائق على توقيف سماحة باللواء ريفي وبالعميد الحسن مرّات عدة منبّهاً (هل تدركون ماذا تفعلون؟) إلى أفعال، ولكان النظام السوري وعلى الرغم من أزمته الكبرى، انقضّ على لبنان الرسمي من رئيس الجمهورية إلى رئيس الحكومة، ولكان كلّ من ريفي والحسن قد حزما أمتعتهما وغادرا المديرية العامّة للأمن الداخلي، ليس إلى منزليهما، بل إلى قاعة المحكمة ليحلّا مكان سماحة نفسه.

لكي يتمّ توضيح ما كان واضحاً منذ البداية، لا بدّ من العودة قليلاً إلى الوراء، إلى كفوري نفسه وعلاقته بميشال سماحة، وأيضاً إلى علاقته بالنظام السوري، تلك العلاقة القديمة التي بدأت بشكل خجول منذ ذهاب إيلي حبيقة إلى دمشق، والتي تعمّقت عمليّاً في العام 1990 بعد 13 تشرين الأوّل ودخول الجيش السوري إلى ما كان يسمّى بالمنطقة الشرقية.

عمل كفوري مع حبيقة وكان ضليعاً في خبرته الأمنية، وبقي معه حتى 15 كانون الثاني 1985، ثمّ غادر لبنان بعد أن تيقّن أنّه ملاحَق من القوات اللبنانية، ليحاول العودة فيما بعد لأسباب عائلية، بعد أن توسّط له لدى القوات شقيق مسؤول قوّاتي (أصبح اليوم حليفاً للنظام السوري)، فعاد، لكن القوات أوقفته كي تعرف منه لائحة بأسماء مخبرين بقوا في المنطقة يعملون لحبيقة، وبعد ذلك تُرك لسبيله فسافر مرّة ثانية إلى بلد عربي.

مع اندلاع حرب الجيش والقوات اللبنانية، وبعد دخول الجيش السوري إلى المناطق التي كان يسيطر عليها العماد عون، عاد كفوري إلى لبنان، ولكن عبر سوريا، حيث انخرط في تعاون أمني مع شخصية أمنية قريبة منها، وبقي هذا التعاون قائماً حتى العام 2005.

بعد ذلك التاريخ ورث ميشال سماحة ميلاد كفوري، وهذه الوراثة التي عمرها سبع سنوات، أدّت إلى بناء علاقة ثقة لا حدود لها بينهما، وهي تعزّزت بعد أن طوّر كفوري علاقته المباشرة بالنظام السوري، فأصبح محطّ ثقة أجهزة الأمن السورية، ودخل في علاقات جديدة مع أصدقاء النظام ومنهم الوزير محمد الصفدي، وغيره الكثير من إعلاميّين وسياسيّين.(المفارقة أنّ كفوري تعرّف للمرّة الأولى على اللواء أشرف ريفي بتوصية من الوزير الصفدي، ثمّ بنى علاقة بعد ذلك مع العميد الحسن).

علاقة كفوري لأكثر من عشرين عاماً مع أجهزة الأمن السورية، وعلاقة الثقة التي بناها مع سماحة، كانت سبباً لاختياره لتنفيذ التفجيرات، وهو ما يعطي صورة واضحة عن هذه العملية، وعن الثقة في غير مكانها التي أدّت إلى فضحها.

وهنا لا بدّ من استعراض وقائع في الشريط المصوّر بصوت سماحة وصورته، يقول لكفوري الذي سأله عن سبب اختياره لتنفيذ العملية، حيث يؤكّد له بأنّ ثقة أجهزة الأمن السورية به هي التي دفعتهم لاختياره، كما يطمئنه بالقول: أربعة فقط يعلمون بالعملية، أنا وأنت واللواء مملوك والرئيس الأسد.

في الشريط المصوّر ما يكفي لتوضيح الصورة من دون التباس. لم يكن كفوري يسعى لإقناع سماحة أو استدراجه إلى تنفيذ العملية، كان يبدو متردّداً، وربّما يعود السبب الأكبر إلى أنّه عمل في المجال الأمني كجامع معلومات وليس كأداة تنفيذية، والأرجح أيضاً أنّه لم يُرد التورّط في تفجيرات لصالح نظام لم يعد بعيداً سقوطه. أمّا سماحة فلم يكن في موقع ناقل العبوات بل في موقع التخطيط والتنفيذ، كان أكثر من حلقة وصل.

في الشريط المصوّر أيضاً ما يكفي من أدلّة بصوت سماحة، لم يكن متيسّراً توقيفه لولا توفّرها. فلقد تمّت دراسة كلّ كلمة قالها قبل اتّخاذ القرار، وربّما لو استعمل لغة الإيماء لكان صعب اتّخاذ هذا القرار. لو كان استعمل كلمات مبهمة، لو كان تجنّب ذكر الأسماء (الأسد ومملوك)، لو كان امتنع عن الإشارة بصراحة إلى التفجيرات والأماكن المحدّدة، لكان ذلك أدّى إلى التفكير مليّاً قبل تنفيذ عملية توقيفه.

لكنّ كلّ ذلك لم يحصل، فكان أن أدان سماحة نفسه بنفسه، واقتصر الجهد الذي مارسه المحقّقون على ساعات قليلة، كانت كافية لاعترافه، بعد أن تيقّن أنّ سيّد الأدلّة هو الشريط المصوّر بصوته وصورته.  

السابق
حكومات النأي بالنفس عن الدولة!
التالي
حين يتهيّب الزعماء!