رأس الأسد طُرِح على طاولة الصفقات؟ ولكن؟

ماذا يعني أعلان نائب رئيس الحكومة السورية قدري جميل من موسكو استعداد النظام السوري للتفاوض حول مسألة تنحي الرئيس بشار الأسد؟
القليل بالنسبة إلى دمشق، والكثير بالنسبة إلى موسكو.

لماذا؟
لأن جميل، ومعه علي حيدر وزير المصالحة الوطنية، اللذين يعتبران من "الحمائم" في تركيبة النظام السوري، ربطا أي بحث حول تنحّي الأسد بشروط مستحيلة. إذ قال حيدر أن المفاوضات بين النظام والمعارضة "التي يمكن أن تتطرق إلى كل شيء"، (على حد تعبير جميل ) بما في ذلك تنحّي الأسد، يجب أن يسبقها تسليم المعارضين- المفاوضين أسلحتهم إلى النظام السوري. وهذا يعني، بكلمات أخرى، أنهاء الثورة السورية واستسلام المعارضين- المفاوضين بلا شروط، كما يعني أن النظام السوري لايزال يراوح مكانه في مواقفه المتصلّبة والراقصة على إيقاع الدم العنف المنفلت من عقاله.
أما بالنسبة إلى موسكو فهذا الإعلان يمكن أن يعني الكثير. إذ أنه يعطيها ورقة ثمينة لتحقيق أمرين إثنين في آن:
الأول، فك العزلة الدبلوماسية شبه الخانقة التي تتعرّض إليها على الصعيد الدولي، بسبب تقويض النظام السوري لكل الحلول الدولية – الإقليمية التي طُرِحت لحل الأزمة، والتي كانت ستصبح كاملة وخطرة لولا الفيتو الصيني التكتيكي والمصلحي الداعم لها في مجلس الأمن.
والثاني، تخويلها رسمياً وعلناً بطرح رأس الأسد على طاولة الصفقات الدولية والإقليمية، وأيضاً مع بعض أطراف المعارضة السورية.
ويبدو من رد فعل الحكومة الأميركية القوي والسريع الرافض لاعتبار هذه الخطوة بمثابة تقدّم نحو الحل، أن موسكو لم تتصل بها بعد للتحضير لصفقة ما، وأنها تشك بأن هذه الأخيرة ربما تحاول أن تبرم صفقات ثنائية أخرى من وراء ظهرها، ربما مع السعودية وتركيا، أو هي على الأقل تحاول إرباك الطوق الدبلوماسي (والأخلاقي) المضروب بإحكام على عنق كل من موسكو ودمشق، من دون تقديم أي تنازلات لواشنطن.

واشنطن وموسكو
لكن، بما أن أي حل أو صفقات للأزمة، التي باتت مدوَّلة إلى حد بعيد، لايمكن أن يتم إلا عبر بوابة واشنطن، فإن المناورة الدبلوماسية الروسية في شكلها الحالي تعني أن هذا الحل لما ينضج بعد (إلا بالطبع إذا ما حمل وزير الخارجية الروسي عتاده الدبلوماسي الجديد إلى واشنطن وبدأ لعبة المقايضات معها).
الدليل على هذه المحصلة هو التراشق الكلامي التي حدث بين موسكو وواشنطن خلال وبعد إعلان قدري جميل عن طرح ورقة التنحي في بورصة التداول. فبعد أن أطلق الرئيس الأميركي أوباما تهديده القوي بالتدخل العسكري في سورية، إذا ما تجاوز النظام السوري "الخطوط الحمراء الأميركية باستخدام أو حتى نقل الأسلحة الكيمائية، رد لافروف بتحذير واشنطن من التدخل المنفرد في سورية، قائلاً أن هذا "سيشكِّل خرقاً للقانون الدولي، وموسكو وبكين لن تسمحا بذلك".
كان الرد الروسي هذا قوياً بالفعل، وأوحى بأنه ربما تضمّن تلويحاً برفع وتيرة الخلافات بين روسيا وأميركا حول سورية إلى مرتبة المجابهة المباشرة؛ في وقت كانت تنضم روسيا إلى منظمة التجارة العالمية، درّة تاج العولمة الأميركية، يعد مفاوضات شاقة دامت نيفاً و18 عاما.
فما تفسير هذا الموقف الروسي؟
التفسيرات عديدة، لكن أهمها أن موسكو تعرف أن تهديد أوباما الأخير لايصب في مصلحة الثورة السورية، بل ينزلق مباشرة إلى جيب إسرائيل.
فأوباما، في بيانه، لم يقل أنه سيتدخل لإنقاذ أرواح عشرات السوريين التي تزهق كل يوم، ولا لمساعدة الشعب السوري على نيل حرياته الديقراطية، بل ركزّ فقط على نقطة يتيمة: "منع الأسلحة الكيمائية من الوقوع في أيدي قوى أخرى" (يقصد الأصوليين الإسلاميين). وبالطبع، أمن إسرائيل سيكون مهدداً إذا ما حدث ذلك.

.. وواشنطن وتل أبيب
أكثر من هذا. كان العديد من المحللين يؤيدون تحليل موسكو القائل بأن الولايات المتحدة ليست حازمة وجادة في دعواتها إلى تغيير النظام السوري، لأن الدولة العبرية لاتزال حتى الآن تعارض هذه الخطوة. فهذه الأخيرة كانت طيلة نيف و40 سنة "مرتاحة" لخدمات هذا النظام في الجولان، وضد الفلسطينيين واليساريين في لبنان وخارجه، وغيرها من الخدمات الاستراتيجية والأمنية التي وفّرها النظام لها.
الدليل على هذه الحقيقة ورد في تقرير هام لمؤسسة الشرق الأوسط ( Middle east institute)
الأميركية للأبحاث الدولية والاستراتيجية، جاء فيه:
"روسيا لاتعتقد أن إدارة أوباما، ولاحتى أي إدارة جمهورية قد تصل إلى البيت الأـبيض، مهتمة حقاً بإسقاط النظام في سورية. ولايعود السبب فقط إلى اعتبارات محلية أميركية (الانتخابات الرئاسية، والتعب من الحرب) بل أولاً وأساساً بسبب المضاعفات السلبية التي قد تلقي بظلالها على إسرائيل في حال سقط النظام. ولو أن واشنطن كانت جادة حقاً في إسقاط هذا النظام، لكانت شكّلت تحالف مريدين لضرب الأسد، سواء بموافقة مجلس الأمن الدولي أم لا".
أمر آخر.
في تحليل لنيويورك تايمز، تمت الإشارة إلى أن الولايات المتحدة، وعلى عكس كل البيانات الرسمية الأميركية، لم تزوِّد المعارضة المسلحة السورية بأي معدات "غير قاتلة"، ولا حتى الـ900 هاتف فضائي الذي أدّعت وزيرة الخارجية كلينتون أن واشنطن نقلتها إلى الثوار.
لماذا؟
مرة أخرى، ليس هناك سوى تفسير واحد: إسرائيل لاتزال تعارض المعارضة السورية، وتدعم نظربة "أمن إسرائيل" من أمن سورية" التي أطلقها الملياردير رامي مخلوف، قريب الرئيس السوري بشار.
كل هذه المعطيات تؤكد ماليس في حاجة إلى تأكيد منذ عقود: ليس هناك سياسية خارجية أميركية في الشرق الأوسط. فقط هناك سياسية خارجية أميركية تقررها إسرائيل في المنطقة، خاصة في المجال الحيوي لـ "الأمبراطورية الإسرائيلية" الذي يضم سورية ولبنان والأردن وفلسطين وشمال العراق.
وإذا ماحدث وقررت الولايات المتحدة في مرحلة ما التدخل العسكري في سورية، فهذا سيعني أن إسرائيل فقدت الأمل من إنتصار نظام الأسد، ونفضت يدها منه، وبدأت تبحث عن بدائل.

موازين القوى الداخلية
ماذا تعني كل هذه المعطيات؟
إنها تعني، ببساطة، أن الأزمة السورية لم تخرج بعد من عنق زجاجة التنافس الدولي- الإقليمي على النفوذ والهيمنة في بلاد الشام، وأن المناورات والمناورات المضادة التي تجري في "الوقت الضائع" الراهن، ليست أكثر من ذلك: أي مجرد مناورات.
بوادر الحل الحقيقي لن تظهر، إلا حين ترفع موسكو الغطاء الدولي الحالي عن النظام السوري، عبر صفقة كبرى مع واشنطن، وصفقات أصغر مع السعودية (مقابل ضمانات من الرياض بعدم دعم الإصوليين السنّة في القوقاز وآسيا الوسطى) ومع تركيا (تقاسم النفوذ في سورية، والتفاهم حول مكافحة التطرف الإسلامي في القوقاز وآسيا الوسطى أيضاً).
وحتى ذلك الحين، ستبرز الكثير من المناورات الدبلوماسية في الخارج ، المترافقة مع الكثير من العنف الدموي في الداخل السوري. وبما أن هذه الحل الخارجي لما ينضج بعد كما أشرنا، ستتركّز كل الجهود الغربية والعربية على محاولة تغيير موازين القوى في الداخل السوري لصالح الثوار السوريين.
ويبدو أن هذا بالتحديد كان محور "القمم الهاتفية" التي جرت أمس (الأربعاء) بين رؤساء أميركا وبريطانيا وفرنسا، وأيضاً بين السعودية وتركيا وقطر، والتي تركّزت على رفع وتيرة تسليح المعارضة السورية كماً ونوعا.  

السابق
ماذا يبقى من سورية؟
التالي
خطف مباشر