بين آل الحريري وآل المقداد

كان الانطباع السائد أن أحمد الحريري ينتمي إلى الجيل الجديد المحاور المنفتح و«الإصلاحي» في تيار العائلة اللبنانية ــ السعودية التي حكمت لبنان في الزمن السوري. وهو انطباع عزّزته دماثة الشاب وتهذيبه الخفر. لكن يبدو أن «نكبة» المنفى القسري لأقربائه فرضت اعتبارات جديدة، منها ضرورة شد العصب الشارعي ولعبة خطاب ردّ الفعل، ومنها مقتضيات تعبئة الفراغ أو توزيع الأدوار في غضونه، أو ربما اقتناص فرصته لفرض موازين جديدة داخل البيت والعائلة… المهم أنه وسط ذلك المشهد دأب الحريري الشاب أخيراً على إلقاء خطابات ملوّنة بهذا السياق. كان آخرها قبل يومين، وفي خلاصته الأطروحة اللازمة للفترة الراهنة: النظام السوري المتداعي يستعين بآخر أوراقه، أي تخويف المسيحيين من الغول الأصولي السلفي، والجواب معروف: لا تخافوا، بيت الحريري ضمانتكم…
من الواضح أن تلك المقولة ليست من عنديّات الحريري الشاب، فهي وصلت إليه من أفواه المسيحيين الحريريين. ففي وسط هؤلاء لغة مزمنة كاملة، قائمة على جلد الذات، وعلى تسويق أصحابها لأنفسهم بأنهم رواد الخروج من «الخوف المسيحي» وعليه. يقول مسيحيو الحريري لزعماء تلك العائلة إن المسيحيين في لبنان لم يحترفوا منذ قرن وأكثر إلا صناعة الخوف واستهلاكه والخضوع له، على طريقة رهاب النبوءة المتحققة ذاتياً (أين أنت يا جوزف؟؟) ويحرص هؤلاء على تعليم الشيخ الشاب في كتاب تاريخهم المسيحي الخاص. يكررون على مسامعه أن كل مشكلة لبنان هي الخوف المسيحي. ففي منتصف السبعينات خاف المسيحيون من أبو عمار فذهبوا إلى حافظ الأسد. وظلوا هناك يتذاكون عليه سنتين، حتى اضطروا للخوف منه. فذهبوا بعده إلى بيغن وشارون ليحمياهم منه. ولما اعتبروا أن تل أبيب هي مجرد متعهّد لديهم لتنظيف المخيمات من أطفال فلسطين وتنظيم انتخابات الرئاسة بفوّهات الدبابات، لم يتأخروا في الهرب من خلوة نهاريا. بعدها صاروا خائفين من الفلسطيني والسوري والاسرائيلي معاً، فذهبوا إلى صدام حسين. لم يصمد الأخير طويلاً، فسقط سريعاً مطلع التسعينات، قبل أن يسقط فعلياً سنة 2003. ليتعمّم بعد سقوطه خوف المسيحيين اللبنانيين على كل الأرض، تماماً كما عمّموا «انتشارهم» على بسيطتها. ويقول مسيحيو الحريري للشيخ الشاب: من هذا المنظور عليك أن تفهم المسيحيين لتكسبهم، فتربح معركتك ضد حسن نصر الله وميشال عون. هم لا يعيشون إلا على الخوف، ولا يتفاعلون إلا بنتائجه ولا يتأثرون بغير تداعياته. اليوم باتوا يخافون من كل العالم، فذهبوا إلى من يعادي كل العالم، ذهبوا إلى مثلث الضاحية ــ دمشق ــ طهران. وبالتالي يكفي أن تطمئنهم أنت، فتسترجعهم سالمين من هناك، وتنتصر وتنصرنا معك…
ما لم يخبره مسيحيو الحريري لشيخهم الشاب، عن عدم معرفة أو عن قصد تعمية، أن ثمة نموذجاً آخر لهؤلاء. نموذج الذين قاوموا الزمن السوري في ذروة صلفه وقهره وعسفه. يوم كان وليد جنبلاط يدخل على علي دوبا كما وصفه وئام وهاب، ويوم كان رفيق الحريري مياوماً لدى غازي كنعان بالشكل الذي وصفه ابنه للمحقق الدولي… في زمن ذلك الذل والهوان بالذات، كان ثمة عشرات الآلاف من الشباب، عراة الصدور، يقاومون بلحمهم الحي، يتآمر عليهم كل العالم، بدءاً بعالمهم، ويدخلون المعتقلات يومياً. يقضّون مضاجع سجانيهم بصخبهم وضحكاتهم وحبور ثورتهم المجنونة. ويرعبون «المتعاونين» مع السجّان بانتحاريتهم ورفضهم طروحات الواقعية ونظريات البراغماتية وفلسفة الامتثال والتكيف وتقطيع الوقت…
ليس الخوف إذن سيّد الموقف، لا أمس ولا اليوم. وليست غريزة البقاء ما يتحكم بشكل البقاء ونمط عيشه وسلوكيات أيامه. ماذا لو كان السبب، لا الخوف، بل الرفض؟ ماذا لو كانوا ينظرون إلى النماذج الحريرية: من الرياض حيث لا يزال مزين نسائي لبناني تحت ضربات السياط والجلد في معتقل وهابي، لمجرّد أن هذه مهنته. وما من رئيس لبناني مستأسد فجأة يجرؤ على كلمة… إلى القاهرة حيث التقيّة الإخوانية قاعدة الفكر والقول والعمل. اختبأوا خلف شباب الميدان حتى وصلوا فوق جثثهم. بعدها أصدروا الفتاوى بتحويل الشباب جثثاً إذا ما فكروا بالنزول إلى الميدان… وصولاً إلى بيروت، حيث النموذج الحريري محصور برمزين اثنين لا ثالث لهما: سوليدير والقريعة. في الأولى تُسرق عاصمة من أهلها لتعهَّر. وفي الثانية تُسرق فلسطين من شعبها ليوطَّن تهريباً وليُنسف وطنان وأكثر معاً…
ماذا لو كان الرفض هو ما لا يفهمه الشيخ الشاب وحواريوه؟ سيردّ أحدهم فوراً: وهل الرفض نفسه يتذلل حيال آل المقداد ودويلتهم؟ سنة 2002، لما خيِّر الفرنسيون في انتخابات الرئاسة بين شيراك ولوبن، قال بعضهم إن الخيار هو بين النصَّاب والفاشي. كل المأزق اللبناني اليوم يكمن في ضرورة اجتراح خيار ثالث.  

السابق
أية عدالة انتقالية بعد التغيير في سوريا؟
التالي
عندما يرتد أشباه الفراعنة إلى أهراماتهم الكرتونية