الخوف من المستقبل .. حاكماً!

اندثرت الأحلام، وطُويت رايات النضال الوطني والقومي من أجل التحرر والوحدة والعدالة الاجتماعية والديموقراطية وسائر الشعارات البراقة التي هتفت بها ولها جماهير الأمة، قبل عشرات السنين، وناضلت أجيال من أجل تحقيقها حتى الشهادة.
صار أقصى الطموح الحفاظ على «الكيانات المستولدة بقوة القهر الاستعماري»، بحيث يكون لكل «قطر» دولة واحدة.
يتم التفتيت أمام عيوننا، وبمشاركة فعالة من الجميع، سواء اتخذت شكل الاستسلام «للمخططات الاستعمارية» التي قاتلها الأجداد والآباء، طلباً للحرية والوحدة والمنعة وبناء المستقبل الأفضل، أو اليأس من ظهور المنقذ المخلص.
ها نحن نشهد ما هو أسوأ من الواقع الذي كان مرفوضاً فصار الحفاظ عليه مطلباً عزيز المنال: أن تبقى كل دولة من الدول أو الدويلات أو الكيانات التي استولدها «الاستعمار» قيصرياً، دولة واحدة، فلا يجري تشطيرها وتفتيتها، ولا يتم تقسيم الشعب الواحد وبعثرته على الطوائف والمذاهب، ثم نزولاً إلى القبائل والعشائر و«الحامولات» بحيث تستعاد الذكريات السوداء لما قبل التوحد في دين واحد أو دولة واحدة.
من اليمن إلى لبنان تشتعل بين أبناء الشعب الواحد حروب بلا قضية، بمعزل عن الشعارات التي ترفع لتبريرها سواء اتصلت بالجغرافيا والتاريخ أم بالدين أم بالطائفة والمذهب.
حتى في الدول التي تدين الأكثرية الساحقة بدين واحد، وحتى بمذهب واحد، (مصر مثالاً) يتخذ التقسيم من الأصولية والسلفية طريقاً لضرب «وحدة المؤمنين» وصولاً إلى وحدة الدولة، بزعم مواجهة بدعة العلمانية بين المسلمين أنفسهم وقبل الوصول إلى المسيحيين بمذاهبهم مجتمعة.
ومع التسليم بأن «أعداء الأمة» من الإمبريالية الأميركية إلى الصهيونية ومعها الاستعمار القديم قد أسهموا في هذه الحرب، فإن المسؤولية الأعظم والأخطر إنما تقع على أنظمة الحكم الدكتاتورية التي دمرت وحدة الشعب، حيثما حكمت فتحكمت، مستندة إلى العسكر وإلى استنفار العصبيات الطائفية والعرقية، في مواجهة الأكثرية، وبذريعة تعويضها عن «ماضي القهر» الذي عاشته مهانة ومحرومة من حقوقها الطبيعية في وطنها ودولته.
وبرغم أن دولة الكيان اللبناني تتميز بتركيبتها الخاصة فإن الوباء الذي يسود المنطقة قد ضربها فكشف هشاشة بنائها ومؤسساتها التي تحكمت في استيلادها طبقة سياسية بين ركائزها الطائفية والمذهبية وإن مموهة بشعارات سياسية ذات وهج.
إن وحدة سوريا، دولة وشعباً، تعاني تصدعا خطيرا سيتجاوز حدودها بالتأكيد إلى جوارها اللبناني (والأردني والعراقي).
وليس سراً أن ثمة قوى دولية مؤثرة تتحدث اليوم عن «سوريا جديدة» أو «مختلفة»، تتوزع دولتها «كيانات» بعضها يستند إلى الطائفة أو المذهب وبعض آخر إلى العرق أو العنصر، متخذة من العراق ما بعد الاحتلال الذي ورث الطغيان نموذجاً صالحاً لتعميمه في المشرق العربي… فيكون للأكراد كيانهم المستقل، في حين يتوزع العرب على كيانين، على قاعدة المذهب، وتبقى «الدولة المركزية» الجامعة أضعف هذه الكيانات، خصوصاً أنها تقوم أو تقام بالتراضي داخلياً، وبنوع من التوافق بين «الدول المحيطة» أو البعيدة وإن كان نفوذها مقيماً.
وفي اليمن يكاد انفصال الجنوب عن الشمال يصير مطلباً في ظل تهافت الدولة المركزية وفقرها واختراق جيرانها الأغنياء عناصرها المكونة وقدرتهم على شراء الولاءات، بغض النظر عن المذاهب وفرقتها.. من دون أن ننسى «القاعدة» التي صارت فيها «قوة عظمى»!
بهذا المعنى فإن ما يحصل في لبنان من حروب الطوائف والمذاهب وانتعاش القبائل والعشائر، مضافاً إلى الانفصال النفسي الذي تعيشه المناطق بعضها عن البعض الآخر، وتهالك الدولة بمؤسساتها جميعاً، السياسية والقضائية والأمنية، يفتح الباب أمام مخاطر مصيرية، تتجاوز بكثير بروز «العصبيات الصغرى»، وتزخيم الدعوات أو النزعات «الانفصالية».
إن اللبنانيين جميعاً يعيشون في قلب الخوف ولا يجدون من وما يطمئنهم. لم يعد الخطر في الخارج، فسوريا ليست «خارجاً» بالنسبة للبنان، والحالة الكارثية التي يعيشها السوريون في ظل «الحرب» التي امتدت نيرانها لتشمل أرض بلادهم جميعاً، تعكس نفسها على لبنان واللبنانيين الذين لا يجدون مظلة أمان من دولتهم فيصيرون معلقين في فراغ الخوف والقلق على المصير.
وأعظم الخوف، في هذه اللحظة، يتركز على الدولة ومؤسساتها التي تعيش على حافة الانهيار..
الظريف أن المسؤولين الكبار يطلقون الإنذارات حول مصيرها ويعززون مخاوف المواطنين العاديين من تهاوي الدولة، ويقرون ويعترفون بعجزهم عن صياغة الحلول التي تؤمن الناس على يومهم وغدهم في ظل دولتهم الهاربة من مسؤولياتها.  

السابق
البلد: بري: هل تحول الوطن رقعة للطوائف والمذاهب؟
التالي
“حزب الله” وفريقه بعثا برسائل متعدّدة