فليُفرَج عن المخطوفين وليعتذر فرزات

للوهلة الأولى ذُهلنا من انضمام الفنان السوري علي فرزات إلى حملة صفحات فايسبوك التي نظمتها جماعات سلفية على موفدة محطة «العربية» إلى ريفَي حلب وإدلب، عليا إبراهيم، وإضافته تعليقات على الصفحة تنم عن فقدان الفنان الضحية حساسية كنا نعتقدها شرطاً بديهياً كي يكون الفنان فناناً. إذ كيف لفنان أن يضيف إلى صفحته كلاماً طائفياً ومذهبياً، لم يبذل جهداً للتدقيق فيه سوى تدوينه عبارة «للتأكد»، وإضافة عبارات تؤكد أنه جزء من الحملة.

أخطأنا في تقديرنا، أولاً لأن علي فرزات انتقل من كونه صديقاً للرئيس السوري بشار الأسد عندما منحه الأخير أول ترخيص لصحيفة سورية معارضة، إلى كونه ضحية له عندما أقدم الأمن السوري على الاعتداء عليه على نحو مبرح وبشع. وهذا الانتقال جعلنا نعتقد أن هفوة الفنان لن تتكرر بعد أن خبر بجسمه تبعات سقوط فنان في فخ صداقة الرؤساء. وأخطأنا تقديرنا أيضاً لأننا استبعدنا في حالة فرزات أن يتحول الضحية جانياً، على رغم أن علم النفس أشبع هذا الاحتمال درساً وتأويلاً.

عليا إبراهيم كانت تغطي الثورة في سورية، وكانت منحازة في تغطيتها إلى الثورة من موقع تسجيل مرارات الناس هناك، مع إفراد حيز صغير لمراقبة الثورة. وهي بذلك تُقدم خدمة مضاعفة من خلال سعيها أولاً إلى فضح ممارسات النظام، وثانياً إلى حماية الثورة من نفسها. ناهيك عن أنها تقوم بعملها كصحافية عليها أن تنقل ما يجري بأمانة.

والحال أن سقطة فرزات من المفترض أن تفتح نقاشاً تشهده مدن وبلدات الداخل السوري. فالناشطون السوريون في الداخل، لا سيما المدنيين منهم، يخوضون يومياً نقاشاً مع الصحافيين الآتين إلى مناطقهم لتغطية ثورتهم، يعترفون فيه بوجود انتهاكات يرتكبها ثوار أو أشخاص ركبوا موجة الثورة، لكنهم في الوقت ذاته يقولون إن تسجيل هذه الانتهاكات سيفضي إلى استثمارها من قبل إعلام النظام. مئات من الشباب السوريين شديدو الحساسية حيال الممارسات الطائفية والمناطقية، ويشعرون اليوم بأن موعد الحساب مع المنتهكين ليس الآن.

القول إن حماية الثورة في سورية تتطلب مقداراً من الرقابة تمارسه الصحافة بالدرجة الأولى وهيئات الرقابة المدنية بالدرجة الثانية، لا يبدو أنه أمر مرحب به في أوساط كثيرة من ناشطي المعارضة في الداخل والخارج.

والحال أن الانحياز إلى الثورة في سورية نوع من الانحياز إلى النفس قبل أن يكون انحيازاً إلى الضحية السورية، وهو أمر يملي على معتقده مسؤولية الاختلاف مع الوجهة القائلة بتأجيل تسجيل «انتهاكات الثورة» وذلك خوفاً عليها أولاً، وخوفاً على واحدنا من نفسه ثانياً. فها هو فرزات وقد أخطأ بحق نفسه قبل أن يُخطئ بحق عليا إبراهيم، بل إن الأخيرة وجدت من يعتذر منها، في حين أمعن الفنان في سقطته ولم يعتذر. وربما علينا أن نقترح عليه مخرجاً للاعتذار يتمثل في أن الصفحة التي ضمها إلى صفحته حاولت إدانة الزميلة قائلة إنها «شيعية»، وبما أن عليا ليست كما اعتقدوا، فإن فرزات سيبقى منسجماً مع نفسه إذا اعتذر.

والنقاش في ضرورة أن تُراقب الثورة السورية نفسها يأخذنا أيضاً إلى مسألة المخطوفين اللبنانيين الشيعة في سورية. فهؤلاء احتُجزت حريتهم، وهو الأمر الذي إذا مارسته الثورة سيكون تكراراً لما يمارسه النظام بحق الشعب الذي قام بالثورة. القول إنهم من «حزب الله» وإن هذا سبب لاحتجازهم يُفقد خصوم الحزب في لبنان وفي سورية حجة رئيسة في الخصومة وفي النقاش. ثم إن الثورة لم تنتبه إلى مسألة أخرى تتمثل في أن جميع اللبنانيين على يقين بأن المحتجَز من آل المقداد لا ينتمي إلى «حزب الله» ولا يعرف لغة هذا الحزب، وكذلك خاطفوه الذين سجلوا له شهادة ركيكة أجبروه فيها على القول إنه ينتمي إلى الحزب.

نعم، الثورة لم تنتبه إلى هذه الحقيقة، وجرى ذلك في سياق اعتقاد مفاده أن تسجيلاً لانتهاكات ثوار أو مستغلين لن يكون مفيداً، وأن النظام سيستثمر فيه! في وقت يبدو أن عكس ذلك ضروري، ذاك أن خطف المقداد مثلاً من وسط دمشق من المرجح أن يكون جزءاً من مساعي النظام لجر جماعات لبنانية إلى الانخراط في المواجهة إلى جانبه، ومن المقنع أن يكون هو من يقف وراء عملية الخطف، لكن صمت المعارضة والثوار وعدم إدانتهم عمليات الخطف هو ما سيُعزز رواية النظام عن الثورة، وليس تسجيل الثورة انتهاكات ثوارها أو ملتحقين بها ما سيفعل ذلك.

كم كان سيبدو جميلاً وباعثاً على الأمل لو أن المعارضة السورية قدمت للجماعة الشيعية اللبنانية هدية مختلفة عن الهدايا التي يقدمها لها «حزب الله». لو أنها قالت لها إن المخاوف التي زُرعت في وجدانها في غير مكانها.

قد يبدو مفهوماً أن تكون الثورة في الداخل منشغلة بنفسها وبالمأساة التي أحدثها ويُحدثها النظام كل يوم، لكن نخبة سورية في الداخل وفي الخارج لا تزال مترددة في الخوض في انتهاكات هي اليوم على هامش الثورة لكنها مرشحة لأن تتمدد إلى متنها. ثم إن العلاقة بين المتن والهامش في لحظة المأساة تبقى نسبية، فقضية المخطوفين اللبنانيين هي مأساة في متن حياة أهلهم وأولادهم، ولا يمكن القبول بقول مفاده أنها مسألة على هامش الثورة.

السوريون كلهم علي فرزات في لحظة تعرضه للضرب من قبل الأمن، لكن المثقفين السوريين ليسوا كلهم علي فرزات عندما انضم إلى صفحة التخوين المذهبي. المختطفون اللبنانيون ليسوا هامشاً في حياة أسرهم، وعلى المثقف مسؤولية في لحظة المأساة.

 

السابق
الجيوش غير «الحرّة» أحياناً
التالي
داعموا بشار