سورية بين نظريات التآمر الإقليمي وحيرة القرار السياسي العراقي

 لا يصوغ صناع القرار العراقيون السياسات الخارجية للبلاد انطلاقاً من رؤية استراتيجية، تلك حقيقة تفرضها الوقائع أكثر منها «تهمة»، بل أن الافتقار إلى الحساسية الوطنية المطلوبة في التعاطي مع الخارج لا يخص موقف طرف عراقي بخلاف الأطراف الأخرى، فهو محصلة تضارب الرؤى في تحديد تعريف واضح المعالم لمصطلح «المصالح العليا».

وتجد «الحيرة» السياسية العراقية في التعاطي مع تطورات الأحداث في الإقليم مبرراتها الداخلية، بل أنها تجد ضروراتها أيضاً، حيث يصعب التوصل إلى موقف موحد في بلاد ينقسم اللاعبون المؤثرون فيها بشكل حاد حول العلاقة مع الخارج، ويتبادلون تهماً تصل إلى «الخيانة» في توصيف مواقف بعضهم.

وفي مقابل اتهام تتبناه القوى «السنية» وبعض التيارات الكردية عن انخراط الحكومة العراقية التي تتولاها أحزاب شيعية في «مؤامرة» إيرانية بدوافع طائفية لدعم حكومة الرئيس السوري بشار الأسد، فأن الأطراف الشيعية تتبنى اتهاماً آخر يؤكد أن القوى السنية والكردية أيضاً متورطة بدورها في «مؤامرة» تركية – سعودية – قطرية ضد الشيعة في المنطقة.

ووسط حرب الاتهامات تلك فان شخصيات سياسية وثقافية شيعية تتهم الأسد بارتكاب المجازر ضد شعبه وتطالب بتنحيه، وأصوات سياسية وثقافية سنية تصطف إلى جانب نظام الأسد في حربه لا تجد من يترجمها إلى قراءات تخرج عن نطاق بصمة الطائفة.

وحتى الطرف الكردي الذي يبدو للوهلة الأولى متفقاً على ضمان حقوق أكراد سورية، فأنه منقسم بشدة حول أسلوب الحصول على تلك الحقوق، في مقابل اتهامات ضمنية إلى قوى كردية في العراق والمنطقة بدعم نظام الأسد في نطاق صفقة إيرانية – سورية ضد تركيا.

«الحيرة» العراقية في شأن الموقف من سورية، ليست مجرد «سوء تقدير» على مستوى القرار السياسي الرسمي في الأقل، بل تبدو أحياناً أشبه بـ «ورطة إقليمية» حيث تساهم دول الإقليم بوضع العراق في اختبار أكبر من قدرته على الاحتمال، ومن ثم تطرح اتهامات «التبعية» و «الخيانة»، وهي في جوهرها لا تختلف عن تراشق الاتهامات الداخلي.

وبصرف النظر عن تقويم أداء الطبقة السياسية العراقية الحالية بمختلف توجهاتها والنكسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تسببت بها، فأن تلك الطبقة كانت خاضت منذ عام 2003 اختبارات «ولاء إقليمي» مماثلة ومتكررة، على غرار مطالبتها ضمناً وعلناً بإعلان العداء للوجود الأميركي في العراق أو مواجهة الاتهام بـ «التواطؤ مع المحتل» ومن ثم مطالبتها بمواجهة «النفوذ الإيراني» أو الاتهام بـ «التبعية».

ولعبة «الاختبارات» تلك مستمرة على صعد مختلفة، فالترحيب بوزير الخارجية التركي هو «دليل تآمر مع تركيا» واستقبال مسؤول إيراني هو «تبعية لطهران»، ومنع اللاجئين السوريين من دخول العراق هو «تنفيذ للقرار الإيراني» ومن ثم السماح لهم بالدخول هو «ذر للرماد في العيون» حيناً أو «انسياق وراء المخطط العربي التركي» حيناً آخر.

والأمثلة مستمرة ومنتشرة في نطاق واسع، وتغدو أمامها محاولات توفيق الخطاب الخارجي «مستحيلة»، فيما توغل الأوساط العراقية في «ورطتها» وتتخذ على هذا الأساس قرارات مترددة في أحسن الأحوال على غرار الارتباك في التعامل مع ملف اللاجئين السوريين، أو تتورط في «مفرمة» إقليمية لا يملك العراق إمكانات الخروج منها سالماً في أسوأ الأحوال.

وعلى رغم أن الحكومة العراقية حاولت في مناسبات عدة تأكيد «حيادها» تجاه الملف السوري، فأنها في المقابل شاركت عبر خطوات سياسية وطروحات ومواقف مختلفة غير مدروسة في الغالب في تعميق الاتهامات الموجهة إليها بـ «الانحياز إلى النظام السوري»، بكل ما تستدعيه فرضية «الانحياز» تلك من دلالات إقليمية.

وكان بعض المهتمين والمراقبين العراقيين، قد تمنوا أن يحاول العراق النأي بنفسه عن مساجلات كهذه، وأن يكرس حقيقة مفهومة في المنطقة والعالم مفادها أنه بلد يسعى مجبراً إلى أن يكون نقطة تلاق بين الإرادات المتضاربة، وأن طبيعة الدمار والتناحرات والحروب التي خلفتها سياسات التدخل الإقليمي السابقة تحتم عليه التعامل بحساسية مفرطة مع الأزمات الإقليمية حتى لو اتهم بـ «الانزواء» و «السلبية».

 

عراقيون في الأزمة السورية

الأزمة السورية هي التي استدرجت القادة العراقيين إليها، وإن كان هذا «الاستدراج» لا يندرج في نطاق المعلومات الإعلامية عن تقديم دعم للنظام السوري بنحو 10 بلايين دولار وهي التهمة التي يصعب إثبات صدقيتها في مقابل اعتراضات عدة بعضها قانوني حيث لا تمتلك أي حكومة عراقية حق التصرف بمثل هذا المبلغ حتى لو أرادت ذلك، كما أن التداعيات المباشرة للأزمة السورية على السوق العراقية سرعان ما دفعت هذه السوق إلى تغيير وجهتها من الصناعات والمنتجات والمحاصيل السورية إلى تركيا بالدرجة الأساس.

وهناك أيضاً تهمة إرسال مقاتلين عراقيين لدعم نظام لم يكن في أية مرحلة بحاجة إلى مقاتلين لدعمه، أو نقل الأسلحة الإيرانية إلى البر السوري فيما ما زال البحر الذي تفرض السلطات سيطرتها عليه هو المنفذ الأسهل والأكثر أمناً لنقل الأسلحة.

أما على مستوى الدعم الديبلوماسي، فأن صوت العراق الذي امتنع في الغالب عن التصويت داخل الجامعة العربية في عدد من المناسبات تماماً كما فعلت دول مثل لبنان والجزائر لم يمنع بأية حال صدور قرارات شهيرة للجامعة العربية في هذا الجانب، وبالضرورة فأن صوت العراق الديبلوماسي دولياً لم يكن له أي تأثير عملي في تغيير أو منع أي قرار دولي.

فمن أين جاءت نظرية «الانحياز العراقي» إذاً؟

الخطاب السياسي العراقي لم يكن متوازناً مع طبيعة المواقف العراقية الرسمية نفسها، فجاء هذا الخطاب معبأ بلغة غير منتجة أعقبتها خطوات سياسية غير منتجة هي الأخرى على غرار الإصرار على تنظيم مؤتمر القمة العربي في وضع إقليمي شديد الصعوبة والتوتر.

وأقرب مثال على هذا التوجه ينطلق من قراءة سابقة لوزير الخارجية هوشيار زيباري الذي أكد في مقابلة تلفزيونية مع قناة «العربية» قبيل عقد قمة بغداد أن الظروف الإقليمية والدولية لا تسمح بسقوط نظام الأسد، واستفاض الوزير (من دون سبب واضح) في شرح علاقة الانتخابات الأميركية القريبة باستحالة صدور مواقف أميركية حادة تجاه النظام، ومن ثم تأكيد أن التوازنات الإقليمية والدولية لن تسمح بمثل هذا التغيير، وأن موقف العراق ينطلق من ضمان تغيير ديموقراطي بمشاركة النظام نفسه، مع أن الموقف العراقي كان يمكن أن يكون مفهوماً ومبرراً في ضوء وضع العراق الحساس في عمق الصراع الإقليمي الملتهب.

الخطاب الرسمي العراقي وقع ابتداء في خطأ إطلاق الأحكام المسبقة في توصيف «الثوار السوريين» فتداول كبار المسؤولين الرسميين مصطلح «مجموعات تكفيرية متشددة» وهو المصطلح نفسه الذي استخدمه النظام السوري في وصف مناوئيه، وذلك الوصف كان «فائضاً» على أية حال، فلم يكن مطلوباً في الأساس أن يتدخل العراق في إيجاد وصف للمعارضة السورية.

لكن أصحاب القرار السياسي العراقي استندوا إلى هذا الوصف في تحديد أسباب أخرى للمخاوف العراقية مع بداية الاضطرابات في سورية تتعلق هذه المرة بفرض تلك المجموعات «المتطرفة» التي ترتبط بصلة مع «تنظيم القاعدة» سطوتها على السلطة هناك، ومن ثم تحول هذا البلد إلى حاضنة كبرى لإدامة الاضطراب الأمني العراقي.

تلك الوصفة التبريرية إضافة إلى أنها كانت «غير منتجة» بدورها، حيث الدول لا تبني خياراتها وعلاقاتها على أساس انطباعات عامة أولية، فان التمسك بهذا التحليل بعد أن شهدت الساحة السورية تطورات عميقة وانشقاقات واسعة النطاق أثبتت أن حيزاً شعبياً عريضاً يدعم الثورة، عكس بدوره تردداً في تطوير الموقف العراقي بما يتلاءم وحجم المتغيرات على الساحة السورية.

بعض وسائل الإعلام العراقية وأصوات سياسية ودينية وثقافية اتخذت بدورها موقفاً أكثر وضوحاً من الموقف السياسي الرسمي، فبدأت بالحديث عن جبهة «سنية» مدعومة من تركيا وقطر والسعودية تسعى للسيطرة على الحكم في سورية لتقويض «المد الشيعي» في المنطقة، وبالتالي فأن وقوف العراق ضد هذه المساعي يمثل «نصرة» للطائفة، ورفع البعض مستوى التوصيف إلى الحديث عن «معركة وجود شيعي».

من حق وسائل الإعلام بالطبع الانسجام مع رؤيتها للواقع الإقليمي والدور العراقي فيه، لكن ليس مطلوباً من أصحاب القرار السياسي العراقي الانطلاق من تلك الرؤية في تحديد مفهوم «المصالح العراقية العليا».

 

بين «البعثي» و «التكفيري»

وبالعودة إلى الوصف العراقي للمسلحين السوريين باعتبارهم «مجموعات تكفيرية»، فأن «حيرة» أخرى بالغة الدلالة صاحبت الخطاب العراقي الرسمي تمثلت في تحديد مكان مصطلح «البعثيين» في الجملة الوصفية تلك، خصوصاً أن الاستراتيجية الأمنية والسياسية والثقافية التي تم تبنيها في العراق تتحدث عن «تحالف بعثي – تكفيري» لضرب العملية السياسية.

لكن فصل «البعثي» عن «التكفيري» في الخطاب العراقي الجديد بخصوص الأزمة السورية، وإن كان هدفه فك الاشتباك بين النظام «البعثي» والمتمردين «التكفيريين»، فأنه وضع الثوابت التي تأسست عليها العملية السياسية والدستورية العراقية ومنها نبذ «البعث» واجتثاثه أمام حرج مفاهيمي من الصعب تجاوزه.

وحتى في تلك النقطة ذات الطابع «البراغماتي» التي تتيح للعراق التمسك بالحياد في خطابه السياسي للحفاظ على ثوابته لم يتم استثمارها سياسياً كما يجب.

وعندما يبرز اسم إيران كدافع خلف كل تلك الاضطرابات في السياسة الخارجية العراقية، تبدو الأوساط السياسية العراقية، وكأنها وجدت «شماعة» تعلق عليها الإخفاق الخارجي بكل ما يترتب عليه من آثار يمكن أن تصيب في الصميم العلاقة بين العراق وسورية في مرحلة ما بعد الأسد.

يكاد المنطق السياسي يتفق على أن إيران سوف تكون من أولى الدول التي ستسعى إلى ضمان نفوذها في سورية ما بعد الأسد، والنظام الإيراني اختار أيضاً المنافذ التي يمكن أن يلج منها إلى سورية المستقبل، وهذا المنطق لا يفترض في كل الأحوال أن تكون طبيعة علاقة إيران المستقبلية بسورية متطابقة مع مقتضيات «المصالح العراقية العليا» بحكم ضرورات اختلاف موقع البلدين من سورية وطبيعة التداخل الجغرافي والديموغرافي والتاريخي والقومي بينهما، والأمر ينطبق أيضاً على مستقبل العلاقة مع دول الإقليم العربية وتركيا.

وعندما يكون الحديث عن «استراتيجيات دول» فأن من الضروري الإشارة إلى أن القوى السياسية العراقية ومنها تلك الممسكة بالقرار السياسي ليست «منصاعة» إلى الرؤية الإيرانية في طريقة صوغ السياسة الخارجية، على رغم أن الخطاب الإقليمي يحاول تكريس «تهمة الانصياع» تلك للتخلص من مسؤولياته وسياساته الخاطئة تجاه هذا البلد.

وممانعة العراق للمحاولات الإيرانية المستمرة لاحتوائه في نطاق استراتيجية تضمن مصالح «الجمهورية الإسلامية» العليا، ليست خياراً شخصياً، بل إن عباءة «المرشد الأعلى» في نهاية المطاف لا تتسع لحجم الإمكانات العراقية ولن تتسع بالضرورة لأي حاكم عراقي.

ما يمكن أن يحسب للنظام السياسي العراقي انه احتفظ بمسافة عن الاندفاع الإيراني الصريح في دعم النظام السوري، لكن ما يمكن أن يحسب ضده أنه لم يستثمر الأجواء الإقليمية لبناء قنوات اتصال هادئة مع كل الأطراف المتصارعة سورياً وإقليمياً، لضمان «مصالح البلاد العليا» التي لا تتعارض مع مصالح أحد.

وإلى حين التوصل إلى توافق داخلي حول تحديد هذه «المصالح» لا بد أن يعاد توصيف الموقف العراقي باعتباره «حائراً» أكثر منه «منحازاً».

 

 

alhayat.com

Printed from

 

السابق
في خصوص الثورة السورية والأخلاق
التالي
ميشال سماحة: إذا ثبتت التهم