الجيش بين نارين

لحظة الجنون التي يعيشها البلد استحقت من مجلس الوزراء تشكيل لجنة وزارية، واستنابات قضائية وقمع المخالفات الامنية على طريق المطار
اين هو القرار السياسي الذي اعلنه رئيس الجمهورية امس قبل ترؤسه جلسة الحوار كي يضبط الجيش والقوى الامنية كل الامور في البلاد، بعدما كاد اللعب على حافة الهاوية يودي بالحد الادنى من الامن، ويطيح صورة البلد امام الرأي العام العربي والدولي؟ واذا كانت هذه اللحظات المصيرية لا تستأهل عقد المجلس الاعلى للدفاع، فالارجح ان هناك من يرى ان النار اللبنانية لا تزال تحتاج الى المزيد كي تأكل الاخضر واليابس. هل هناك فعلا تعليمات واضحة للقوى الامنية، وهل صحيح ايضا أن قادة الاجهزة الامنية ليست لديهم «حاجات خاصة للوضع المستجد»؟

لم يكن سهلا على الجيش في الايام الاخيرة ان يجد نفسه مطوقاً من اكثر من جهة، وان يتلقى سهاماً من اكثر من طرف. في الشمال كان نواب «المستقبل» يتلقون جرعة دعم من الامين العام للتيار احمد الحريري، الذي انتقد ملاحقة الجيش للنائب معين المرعبي، متهما اياه بالطائفية وبتزامن الدعوى مع توقيف الوزير السابق ميشال سماحة. سارع نواب التيار الى عقد لقاء في دارة المرعبي الذي تلا بيانا باسمهم، امام صورة الرئيس الراحل رفيق الحريري. انتقد فيه مجددا الجيش، فيما كانت قناة «المستقبل» تكرر بث كلام المرعبي الذي يقول فيه ان ملف الجيش ضده «فارغ وطق حنك».
في الوقت ذاته كانت عشيرة آل المقداد تتحرك، ويشن «جناحها العسكري» حملة خطف واسعة، تطال من يعتبرهم آل المقداد عناصر في «الجيش السوري الحر»، وينتشر مئات من اصحاب الدراجات النارية لقطع طريق المطار مهددين بخطف رعايا عرب واتراك. تتنادى دول الخليج العربي الى سحب رعاياها والتهديد بطرد اللبنانيين منها، ويتحرك اهالي مجدل عنجر لقطع طريق المصنع واقامة حواجز.
بدا الجيش امس مكبلا الى حد غير مطمئن. ثمة فريق ظهر بوضوح وكأنه اتخذ قراراً بتطويقه، على مستوى عال، الى حد الحصول على تغطية كاملة من الامين العام لـ«المستقبل»، بعدما سبق للاخير ان اتصل بقائد الجيش جان قهوجي متبرئا من المرعبي، اثر ارسال الرئيس سعد الحريري مسؤول أمنه الشخصي، عبد عرب، الى اليرزة للغاية ذاتها. قرار المستقبل ليس عبثياً، ولم يأت وفق لحظة مرحلية. ثمة من يعرف تماماً ان هذا الوقت فرصة ثمينة للابتزاز السياسي والعسكري، في وقت يشعر فيه هذا الفريق بأنه على باب قوسين من الانتصار في سوريا ولبنان.
في المقلب الآخر، تدور عمليات خطف واسعة، تضع لبنان تحت المجهر الدولي، وتعرّضه لمساءلة المنظمات الدولية. يظهر مسلحون مقنعون على الشاشات يهدّدون ويتوعدون. تُقطع طريق المطار، فيصبح الجيش اسير لعبة الكرّ والفرّ. تُفتح الطريق التي يجب ألّا تُقطع اصلاً، لو كانت الحكومة والسلطة السياسية اتخذتا قراراً على مستوى يواكب خطورة الوضع يغطي مواجهة من هذا النوع.
يعرف العسكريون تماما مدى كلفة التدخل العسكري لمنع الخطف وتحرير المخطوفين، ومنع قطع الطرق، فيحاولون حل الاشكالات بالمفاوضات الشاقة. لكن اي عملية تحرير او منع مئات الشبان المدججين بالسلاح الابيض والسكاكين، مواجهة مكلفة ودامية، ولا سيما مع العشائر والعائلات. حتى حزب الله نفسه لا يقترب منها كما هي حاله مع ما يحدث يوميا داخل احياء الضاحية الجنوبية. والثمن المكلف يحتاج الى تغطية سياسية على مستوى المسؤولية، لكن لا احد يبدو مستعداً لتحملها.
قبل ذلك مواجهات في عكار، وطرابلس، وعمليات خطف وخطف متبادلة بين قرى وبلدات سنية وعلوية، احتقان في طرابلس، سني ــ سني وسني ــ علوي.
الجيش اليوم بين نارين. ثلاثة من ضباطه وعسكرييه في السجن بسبب حادثة الكويخات، والسياسيون تدخلوا لاعادة سجنهم بعدما افرج عنهم. وثمة رواية مكتملة العناصر عن اتصال التهديد الهاتفي الذي تلقاه احد القضاة من احد مرجعياته لاعادة سجن هؤلاء. فضلاً عن حدث اطلاق موقوفي فتح الاسلام من سجن رومية، وسط احتقان عارم داخل المؤسسة، واطلاق شادي المولوي.
ثمة قرار لا تريد السلطة السياسية ان تتخذه، كما يحدث في كل دول العالم، لتغطية تدخل الجيش. تريد السلطة السياسية قرارات اعلامية وبالمفرق، في لحظة يتهاوى فيها الوضع الامني، وتعمل على تغطية عجزها الداخلي بالهروب الى الامام، والاختباء وراء اعذار سياسية. الحكومة غائبة والسلطة السياسية عاجزة عن اتخاذ قرار بحجم خطورة الوضع. والجيش لا يريد اراقة دم جديد في اي ساحة من دون قرار سياسي.
والخطورة ليست في الغياب شبه التام للسلطة، بل في محاولة تبرير ما لا يبرر، والخطورة ايضاً قد تكون في ان ثمة من يريد اعادة العسكر الى الثكن، لأن المرحلة التي يقبل عليها البلد تحتاج الى كل شيء ما عدا ضبط الامن.  

السابق
ما خلفية استمرار الدعم الروسي للاسد؟
التالي
يحيّي الأسد والجمهور يستاء