لبنان والإرث السوري

عبثاً يحاول لبنان النأي بنفسه عن التطورات في سورية، وعبثاً يتقاذف اللبنانيون على اختلاف مشاربهم المسؤولية عن محاولات جر البلد إلى الحرب الأهلية الدائرة بضراوة على أرض جارتهم، ذلك أن نظامهم بتركيبته الهشة والمصطنعة التي عملت سورية نفسها على تكريسها، لا يستطيع اتباع سياسة الحياد حتى لو رغب بها أكثر من مكون، كما لا يستطيع التنصل فجأة من عملية التماهي مع نظام دمشق بعدما استسلم لها طوال عقود، وجعل غياب الدولة الجامعة أساساً لإبرام سلمه الأهلي وفق معادلة الفصل بين مقوماتها: الجيش والشعب والمقاومة، بحيث بات التخلي عن أحد عناصر هذه الثلاثية يوازي الانقلاب على وجود الدولة ذاتها.
منذ الدخول السوري الأول إلى لبنان في 1976 كان واضحاً لدمشق أن البقاء فيه يتطلب إجراء تغييرات بنيوية في نظامه وإفراغ مؤسساته من مضمونها مع المحافظة عليها شكلا، لتتماشى مع نظامها وتتكيف مع حاجاتها وتستجيب بسرعة لتوجيهاتها. وترافق ذلك مع دمج تدريجي للسياسة الخارجية لكلا البلدين انتهى إلى ما بات يعرف بـ «توحيد المسارين» الذي ألغى الفوارق بينهما عملياً وحول لبنان مجرد تابع للموقف السوري في المحافل العربية والدولية.
ونجحت السلطة السورية الجديدة ممثلة بالجيش والمخابرات من كل نوع، في الحلول على مراحل مكان المؤسسات والأجهزة اللبنانية، مع استثناءات بسيطة، في رعاية شؤون الجماعات الأهلية وترتيب التوازنات بينها وربطها جميعاً بمرجعية وحيدة يمثلها مسؤول «الأمن والاستطلاع» السوري.
اما الانتخابات النيابية التي كانت رغم كل العيوب المحيطة بها تمثل حداً معقولاً من التمثيل الشعبي والمناطقي، فتحولت في العهد السوري إلى مجرد إجراء شكلي لإعلان «فوز» لوائح مركبة سلفاً تختار دمشق المحظوظين لدخولها، وصار البرلمان اللبناني نسخة عن «مجلس الشعب» السوري ومجرد أداة في يد السلطة السياسية يواكب «سوريتها» بالقوانين بدلاً من أن يكون رقيباً عليها. حتى أن رئاسته باتت أيضاً لمدى الحياة.
وفي العهد السوري كذلك تربت أجيال من السياسيين على الخضوع التام للأوامر القادمة من الشام، بحيث اعتاد هؤلاء التنافس على تقديم الطاعة لدمشق وأخذ رأيها في كل صغيرة وكبيرة، وعلى الامتثال التام لما تراه في مصلحتها بما في ذلك نزوات التجديد والتمديد. أما الذين أبدوا مقاومة ما، فإما قوطعوا وعزلوا، أو دبرت لهم تهم أدخلتهم السجون، أو لم «ينفع» معهم سوى الاغتيال.
وكانت «درة تاج» الإدارة السورية للبنان، وضع دمشق يدها على الأداة الإيرانية الناشئة (حزب الله) في مطلع الثمانينات، وتبنيها عملياً وسياسياً، وشمولها بالحماية وإلحاقها بمنظومتها للتحكم، وتضخيم دورها عبر منحها حصرياً حق تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، ثم مدها مع الحليف الإيراني بالأسلحة والأموال التي جعلتها دولة أهم من الدولة وجيشاً أقوى من الجيش.
نجح نظام دمشق في تطويع السواد الأعظم من قادة لبنان السياسيين والعسكريين والنقابيين ورجالات المجتمع، وفي ضبط تواقيتهم على ساعته، حتى إذا اضطر جيشه مجبراً على الخروج من أراضي لبنان، ترك وراءه ليس فقط جماعات وتنظيمات وأفراداً مرتبطين بأجهزته ويحفظون له الجميل لما أوصلهم إليه، بل أيضاً بلداً ممزقاً سياسياً ومنهكاً اقتصادياً، يحول تعدد الولاءات فيه دون اجتماعه ونهوضه.
واليوم، إذ يقترب نظام دمشق من نهايته، يكتشف اللبنانيون أن التخلص من إرثه في بلدهم سيكون أصعب من إسقاط بشار الأسد نفسه، ذلك أنه إضافة إلى إحدى طوائفه المدججة، مليء بـ «السياسيين» المقتنعين بفاعلية العبوات الناسفة، ويعج بـ «الأجنحة المسلحة» للعشائر والعائلات، وأن خلاصه يتطلب جهوداً كبيرة ووقتاً طويلاً جداً.
 
 

السابق
الداعية.. وعلي فرزات
التالي
حزب الله ينشط بشكل طبيعي في أوروبا