طائفية منوّعة تحت الطلب

 الخميس 16 أغسطس 2012

ما أبغض الطائفية! جملة قديمة ومستهلكة ولم آت فيها بجديد. سيوافقني الجميع على المضمون أو سينصرفون عني لأنها تحولت إلى كليشيه. سنؤكد جميعاً على المبدأ ثم ينصرف كل منا ليمارس في الظلام طائفيته الصغيرة التي يرى أنه أحق بها. لكن مع الثورات العربية لم يعد هناك مجال للتعتيم على الطائفية التي أدركنا أنها من الخلايا النائمة، وعندها بدأنا نردد درس لبنان في الحرب الأهلية تماماً بنفس الآلية التي نردد بها تلك الجملة القديمة: ما أبغض الطائفية! فهي تجعلك تنصر «أخاك» ظالماً أو قاتلاً، وتدفع المرء إلى إحالة كافة الاضطرابات على جهة خارجية، تماماً كالأم التي تحيل سلوك ابنها على أصدقاء السوء، الابن مسالم ومطيع ووديع لكنهم الأصدقاء الأشرار. في هذه اللحظة المفصلية تتوالى الاتهامات وتتنوع طبقاً للموقع الجغرافي (أو بالأحرى ما يسميه الخبراء الموقع الجيوسياسي، ما أبغض الخبراء!). وصلت بيروت وأنا محملة بكل الهموم المصرية وهى كثيرة والقائمة طويلة، بعد مرور يوم واحد لم يعد لي هم سوى سورية وما يحدث فيها، والقلق الذي يعتري أهل بيروت من احتمال نشوب حرب أهلية. تفاصيل تدير العقل وتفصلك عن كل ما عدا هذه الكارثة، أقول أنني قلقة من التدخل الخارجي فيقول لي إذاً أنت من الحزب القومي السوري، أقول أن القتل في سورية سيبقى وصمة في جبين الإنسانية يقول لي «بدك إسرائيل تدخل لهون؟» أحاول اعتناق نظرية سلافو جيجيك- ذاك المنظر اليساري السلوفيني الذي يخشاه الغرب كثيراً- حيث ينادي بعدم الإغراق في تفاصيل عدد القتلى في أي كارثة واسـتـبدال ذلـك بالـعمل عـلى اقـتلاع السبب الرئيسي الذي أدى لهذه الكارثة، أنـجح جزئياً ولا أتمكن من التخلص من فكرة القتل المجاني السلس اللامبالي المبرر. أشعر أن نظرية جيجيك بها جزء كبير من الترف الذي لا نطيقه الآن، فهو يرجع كافة الكوارث إلى شرور الرأسمالية، وكل سلطة حاكمة غاشمة تسعى للحفاظ على ملكية رأس المال. تنقطع الكهرباء في عدة أحياء ببـيروت ثلاثة أيام متواصلة أقول إنها الحرب، ولا يحدث شيء، وبعد عودتي للقاهرة أدرك أن الطائفية أبغض من الحرب، أو ربما هي الطريق لحرب ما، ثم أعدل أفكاري وأقول إن الطائفية هي الحرب.

الطائفية القاهرية أنعم من الطائفية البيروتية، ربما لاتساع المساحة أو لاختلاف الوعي التاريخي، ربما بسبب ذاك المصطلح الذي دخل حياتنا «الدولة العميقة» (تعلمنا مصطلحات كثيرة مؤخراً)، لكن هذا لا يمنع أنها كانت قد كشفت عن وجهها القبيح في مذبحة ماسبيرو، حيث تمت مهاجمة مسيرة سلمية متجهة إلى مبني ماسبيرو وراح ضحية ذاك اليوم عدد كبير من الأقباط حيث دهس البعض بالمدرعات، وبقى أشهرهم (للأسف حتى الموت به شهرة) الشاب اليساري مينا دانيال الذي تلقى رصاصة أردته قتيلاً على الفور على رغم أنه نجا من الرصاصة الأولى في أثناء الاعتصام الكبير. يبهرني وعي هذا الشاب، الوعي الذي ظل متقداً حتى اللحظات الأخيرة حين طلب من أصدقائه وهو في سيارة الإسعاف يلفظ أنفاسه الأخيرة أن يقيموا له جنازة بميدان التحرير، وكان له ما أراد. بقى مينا في القلب والفكر كرمز للإخلاص في مناهضة الطائفية. فكان قرار الاحتفال بعيد ميلاده في يوم 23 يوليو إعلاناً عن العديد من الحملات والمبادرات التي تعمل على نبذ الطائفية والدفاع عن الحقوق المسلوبة من أجل إعلاء المواطنة الكاملة. بدا هذا التنسيق الكامل بين عدد كبير من المبادرات والتشبيك بينها هو سر نجاح اليوم ولكن الأهم أن كل من كان موجوداً في تلك الليلة- في شارع محمد محمود- أدرك أن هناك حائط صد قوياً لن يتهاون في وجه أي علامات طائفية بعد اليوم.

ولأن التنسيق بين المبادرات كان مبهراً فقد توصل المنظمون إلى فيلم تسجيلي قصير لمينا دانيال يقول فيه: «لم أرد أن أعيش في هذا البلد كقبطي مضطهد، شاركت في الثورة لأقول أنني مصري». تصفيق حاد وهتافات. كان التجمع بكل تفاصيله السينوجرافية دليلاً على نبذ الطائفية، وعلى الوعي بمعنى انتهاكات دامية وقعت لكل من آمن بمعنى المواطنة. تكلم الكثيرون في هذا الاحتفال، وعرضت المبادرات والحملات أهدافها، عرضت أفلام أنجزتها الحملات، وكان هتاف الجمهور هو همزة الوصل بين فقرة وأخرى. كان للموسيقى حظ في هذا الاحتفال، ونحن وقوف في شارع عيون الحرية (نسبة إلى كل من فقدوا أعينهم في أحداث محمد محمود) ومحاطون بالجرافيتي على الجدران، تغني فرقة راب مصرية «عسكر كاذبون»، وتلحق بها فرقة اسكندريلا لتغني قصيدة «الحرية من الشهداء» من كلمات الشاعر أمين حداد: «شهدا يغنوا، وشهدا يطيروا، شهدا اعتصموا، وشهدا شهود، شهدا بييجوا من ماسبيرو ويزوروا محمد محمود».

إنه الوعي بضرورة رفض الطائفية بكل أشكالها والتنسيق الكبير للتعبير عن هذا المعنى هو ما يشكل مقاومة منيعة في مصر الآن، وهو ما جعلني أتمنى أن أحمل هذا الاحتفال كاملاً، بل المكان بجدرانه ورسومه وموسيقاه وكلماته وحماسته وهتافاته، لأنقله في قلب بيروت فأذكر ناسها بآلام عاشتها أجيال سبقت، وجروح يعاني منها الكثيرون الآن، أذكرهم بجملة قديمة: ما أبغض الطائفية.

 

 

 

 

السابق
عشرات الضحايا في مجزرة أعزاز بينهم رهائن لبنانيون
التالي
التناص مع سرد «الفتنة» والكسل في قراءة الثورة