حتـى لا يكـون مؤتمـر للفتنـة

فجأة، ومن دون سابق إنذار أو تمهيد أو جدول أعمال معلن، استدعت السعودية «القمة الإسلامية» إلى الانعقاد، استثنائياً، مضفية على الدعوة طابع التبرّك بزمانها، في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، وبالمكان ذي القداسة، في مكة المكرمة، إلى جوار الكعبة المشرّفة.
المسرح مثالي لحسم الصراع المفتوح، منذ وقت طويل، بين قبائل الإسلام السياسي: فالمدعوون، بأغلبيتهم الساحقة، يمثلون دولاً هامشية في آسيا وأفريقيا، أهميتها بأعدادها أكثر مما بقدراتها الاقتصادية وخطورتها السياسية، وللدولة المضيفة «أفضال» على الكثير من حكّامها الذين لا يخرجون من النسيان إلا في مناسبات كهذه، متسببين في فوضى بروتوكولية عارمة، خصوصاً أن بعضهم منسي لطول عهده بالحكم، وبعضهم الآخر مستجد في السلطة «لا ملف له»، وهو قد جاء بانقلاب على انقلاب.

… وهناك معسكران متواجهان، بلا أقنعة وبعيداً عن أصول الضيافة ولياقات استقبال الخصم: معسكر الإيمان الذي تقوده «مملكة الخير» يحيط بها من تفضّلت عليهم في زمن الصعوبة بهباتها و«الشرهات» ومعسكر المشكوك في صحة إسلامهم ممن يريدون تعكير صفو العالم بمواجهة «طاغوت الشر» الأميركي و«رمي الكيان الصهيوني الغاصب» في البحر. وذلك بتصدير الثورة وتأمين ديمومتها وبناء المزيد من المفاعلات النووية التي تهدد سلامة الوجود الإنساني جميعاً، (بعكس تلك التي في إسرائيل أو لدى الصديق الأميركي الكبير أو في بعض أقطار أوروبا).
ثم إن معسكر الإيمان قد تعزز، بتقدير من الباري عز وجل، فوصلت إلى السلطة في مصر المحروسة وتونس الخضراء وليبيا ذات النفط الخفيف، قوى الإسلام الحنيف… ولم يتبق من الخارجين على دين الحق، وتحت لافتة العروبة التي هي نوع من الشِرك، إلا النظام السوري، الذي فقد مصادر قوته، فاستعان على شعبه باتباع الأباطرة في بلاد فارس والخزرج، يمدونه بسلاح القتل الجماعي الذي لا يوفر مدينة أو قرية في مختلف أنحاء بلاد الشام.

كذلك فإن جامعة الدول العربية، تحت الرئاسة الخليجية، قد وفرت بعض الجهد في مواجهة الطغيان الذي يحكم بالدم، حين طردت سوريا من جنتها، وحاولت سوق نظامها الدكتاتوري مخفوراً إلى مجلس الأمن الدولي، مما سهّل على وزراء الخارجية في الدول الإسلامية أن يحذوا حذو أقرانهم العرب فيطردوا هذه «الدولة المؤسسة» من جنة دول الدين الحنيف أيضاً.
الدور، الآن، على «ملالي إيران»، إذن، وعلى الدول الإسلامية المنتعشة بهواء «الربيع العربي» المزكى أميركياً، أن يواجهوا ما سبق أن ناله طاغية دمشق من عقاب، فيتم طردهم، أو ـ أقله ـ تجميد عضويتهم في المؤتمر الإسلامي… فإذا ما تعذر توقيع مثل هذا العقاب فليس أقل من «تأديب طهران» بمقاطعة جماعية أو مؤثرة لقمة دول عدم الانحياز المقرر انعقادها فيها بعد أيام قليلة.

هل من الضروري العودة إلى التاريخ والتذكير بأن استيلاد منظمة المؤتمر الإسلامي، الذي تبدل اسمها من دون أن تتبدل وظيفتها، قد تم «قيصرياً»، بذريعة الرد على إقدام الاحتلال الإسرائيلي على إحراق المسجد الأقصى في القدس الشريف… في حين أن الحقيقة كانت غير ذلك تماماً: لقد استولدت لوضع الإسلام السياسي في مواجهة العروبة، خصوصاً أن القيادة العربية التاريخية ممثلة بجمال عبد الناصر، كانت تحت وطأة هزيمة حزيران 1967.

على هذا يمكن القول، بلا تحرّج، إن هذه المنظمة قد استولدتها الهزيمة العربية، فنصح الغرب دول النفط العربي، بقيادة السعودية، أن تتقدم الصفوف بالشعار الإسلامي، الذي كان قد اصطنعت له «الأحلاف»، بريطانياً وأميركياً من قبل، وتمت المحاولة لإحلاله محل العروبة إلا أن حقيقة أن كتاب الله قد أنزل قرآناً عربياً، قد أحبطت ذلك الجهد، وإن لم تقتل الفكرة… فلما وقعت الهزيمة ـ العربية ـ في مواجهة العدو الإسرائيلي، تم صرف النظر عن المواجهة، وجرى الهرب إلى الدين الحنيف بوصفه «الأصل»، وهكذا جُعل «الإسلام السياسي» مخرج طوارئ للساعين إلى النجاة بأنفسهم من عبء التصدي للمشروع الإسرائيلي.

بتعبير آخر فإن المؤتمر الإسلامي هو الابن الشرعي للهزيمة العربية، وهو الأب الشرعي لمعاهدات الصلح مع العدو الإسرائيلي.
من هنا تتزايد الأسئلة المشروعة عن ضرورة الاستعجال بعقد هذه القمة الإسلامية، في مكة المكرمة بالذات وفي العشر الأواخر من رمضان المبارك، من دون جدول أعمال معلن… اللهم إلا إذا كان الموعد المحدد من زمن بعيد لقمة عدم الانحياز، هو السبب المباشر.
.. خصوصاً أن تجديد القرار بتعليق عضوية سوريا في المؤتمر الإسلامي بعد الجامعة العربية، لن يساعد في صياغة حل للأزمة الدموية الخطيرة التي تكاد تلتهم هذه «الدولة الشقيقة» بدولتها وشعبها وتاريخها ودورها الحيوي في منطقتها.

إن ذلك كله يتم على حساب فلسطين، قضية مقدسة وشعباً مشرداً يهيم على وجهه في أربع رياح الأرض، ويعاني في بلاده التي يطرد منها على مدار الساعة، مع ذلك فهو يتشبث بحقه فيها، وبالقدس الشريف والمسجد الأقصى تحديداً. وفي صلاة الجمعة الماضية تزاحم ربع الشعب الفلسطيني في الداخل للصلاة في ذلك المسجد «الذي باركنا من حوله».
أما حكاية المسلمين في دولة ميانمارا فمزحة ثقيلة لا يليق بقمة تجمع أرهاط القيادات الإسلامية أن تستخدمها ذريعة لمؤتمر دولي، خصوصاً أن «الربيع العربي» المستورد حديثاً من لدى الصديق الأميركي لم يشملها بنسائمه الثورية المنعشة.

وباختصار: إنه مؤتمر للحرب بين المسلمين، وبالشعار الإسلامي.
وليس أجلّ من الخدمات التي يمكن أن يقدمها مثل هذا المؤتمر لإسرائيل والإدارة الأميركية والغرب جميعاً، على حساب العرب بعنوان فلسطين أولاً، ثم المسلمين جميعاً ولو بعنوان سوري ترجمته الفعلية: إيران.
إنه مؤتمر للفتنة الكبرى الجديدة..
ونتمنى أن يكون الملك عبد الله قد وافق من نصحه بعقده انطلاقاً من حسن نواياه، وليس نتيجة التباس الأمور عليه.
  

السابق
انهيار سقف مبنى مهجور في صيدا القديمة
التالي
الحركة التجارية تنتعش في أسواق صور قبيل العيد