في أحوال بعض اللبنانيّين اليوم

 عرفتْ إمارات إيطاليا في القرون الوسطى ظاهرة «الكوندوتييري»، التي تتقاطع في بعض ملامحها مع «أمراء الحرب» في الصين، ومع «المماليك» ومع «الإنكشاريّين» في تاريخنا.

و»الكوندوتييري» قائد جيش صغير من المرتزقة، حالفه الحظّ فتحوّل سيّداً للمدينة أو المقاطعة، فارضاً عليها حكماً استبداديّاً تسنده حراب مرتزقته. ومستخدماً الأسلاب والمغانم التي جناها في حروبه، اشترى «الكوندوتييري» ألقاباً أرستوقراطيّة كـ»مركيز» و»دوق» من البابا أو من الإمبراطور الرومانيّ المقدّس.

بيد أنّ انهيار النظام الإقطاعيّ حوّل «الكوندوتييري» عاطلاً من العمل وأحال ألقابه شروى نقير. هكذا نزل إلى السوق، على رأس شلّته من المرتزقة، يحاول بيع نفسه لمن يشتري. لقد كانت نهايته المحزنة بداية سعيدة لإيطاليا.

وهناك في لبنان فئة استثمرت في الأحزاب العقائديّة وكسبت منها عدّةً مفهوميّة ولفظيّة فقيرة تقتصر على أربع عبارات مفكّكة أو خمس، تدور حول الخطر الأميركيّ والخطر الإسرائيليّ وضرورة التصدّي، إلى ما هنالك. ومع ضمور أحزابها، جيّرت جنى العمر للطرف السيّد القويّ الأوحد، أي النظام السوريّ الذي يعلك الكلامَ نفسه، وإن كان يساوره من الأحلام ما لا تبلغه مخيّلة هؤلاء المساكين. فهذا السيّد المتجبّر هو ذاته الذي أذلّ تلك الأحزاب في فترات سابقة، وهو نفسه الذي جعل افتخار المناضلين بنضالاتهم أقرب إلى خردة صدئة.

في ذلك كانت عدّة الكلام المشترك هي السلعة التي يتمّ عبرها التقرّب من المتجبّر الذي «أذلّنا». ومن هنا فصاعداً تُرك للحذلقة ولـ»التحليل الاستراتيجيّ» وللطلاقة الكلاميّة أن تستعرض نفسها على المنابر وفي محطّات التلفزيون.

لكنّ تلك اللغة شرعت هي ذاتها تفقد قيمتيها الدلاليّة والاستعماليّة. وبأحذية أبطال في درعا وحمص وحلب ودير الزور، ديست الرطانة التي لا تفعل غير تزوير الواقع وتمويه الوقائع. هكذا صار النزول إلى السوق، مرّة أخرى، واجباً مُلحّاً. وفي هذا الاضطراب حيال غد جديد لا تُصرف اللغة القديمة في أسواقه، فكّر أحدهم على النحو التالي:

لقد وصلتُ إلى «الرسالة الخالدة» من حزب الكتائب، ولم أصل من «القوميّ السوريّ» أو «فتح» أو «الشعبيّة». هكذا كان عليّ أن أُجهد نفسي أكثر من سواي كي أتعلّم لغة لم أكن أجيد حرفاً واحداً منها. ثمّ إنّني وصلت من موقع أقليّ ونخبويّ لا عهد له بامتداح «الجماهير» وإكبار حركتها.

وهذا ما يجعل تحوّلي أعلى كلفةً، كما يجعلني مطالَباً بالذهاب أبعد ممّا يذهب الآخرون. لقد قطعتُ كلّ حبال الصرّة مع ماضيّ وصرت أتهجّأ أبجديّة كانت موضوعاً لسخريتي وتندّري.

وهذا ما يجعل التسليم بالحقائق الجديدة أصعب عليّ منه على رفاقي، ولأنّني استثمرت في الحقائق القديمة أكثر ممّا فعلوا، فإنّ الخسارة التي تصيبني أكبر من تلك التي تصيبهم. إنّ ما يعصف بي غضبٌ لا يطيق التعايش مع العاديّة السياسيّة، ولا بدّ تالياً من الردّ بالعمل المباشر. لقد سبق لفوضويّين في التاريخ الأوروبيّ أن فعلوا مثل هذا حين تجاوزتهم أحوال الدنيا ففجّروا حافلات وصالات ودور سينما واغتالوا حكّاماً سياسيّين. ذاك أنّ من الصعب جدّاً أن أنتهي «كوندوتييري» أقف إلى ما لا نهاية في انتظار من يشتري، وما من أحد يمرّ.

 

السابق
واشنطن لا تستبعد أي فرضية لضمان تنحي الأسد
التالي
اللواء: غبار إعلامي يثيره الدفاع عن سماحة وواشنطن تطالب القضاء باحترام المعايير الدولية!