درس رفيع من تايم

الصحافي الذي يستطيع ان ينجح في مهمة الجمع بين الجاذبية والرصانة التحليلية يقوم عملياً بما يحتاج الى حرب يومية مع النفس والوقائع والمصادر.

لفت نظري بشكلٍ خاص في القضية الهامة جداً (لمن يهتم بأخلاقيات مهنتنا في بلادنا العربية) التي طُرحت حول المعلق الأميركي من أصل هندي فريد زكريا الذي يعمل في "تايم" والـ"سي. إن. إن" والمتعلقة بكشف "سرقته" لمقطع من مقالة في "النيويوركر" عن كتاب لباحث حول قوانين حمل وحظر الأسلحة بين المدنيين في الولايات المتحدة الأميركية. المقطع ورد في أحد مقالاته دون ذكر المصدر.
… لفت نظري البيان المقتضب الذي صدر عن إدارة مجلة "تايم" بعد اعتراف فريد زكريا بـ"الخطأ الرهيب" الذي اقترفه والذي أعلنت فيه "تايم" (ثم "سي. إن. إن") تعليق عمل الكاتب شهرا كاملاً.
ففي هذا البيان جملةٌ تصلح درساً مهنياً كاملاً صادراً عن مجلة هي واحدة من مرجعيات العصر الصحافية. تقول الجملة إن المعايير التي يجب أن يطبِّقها معلِّقو المجلة تفرض "أن لا يكون عملهم حقيقياً فقط بل أصليٌّ أيضا" .
لا تتعلّق القضية المثارة بالصحافيين فقط، وخصوصا الكتاب الصحافيين، بل بكل أنواع السرقة المعلوماتية – "الأفكارية". ولا أستسيغ هنا استعمال المصطلح الشائع: السرقة الفكرية… لذلك أفضل الاشتقاق من كلمة "افكار" حتى لو أثرتُ غضبَ اللغويين (وبينهم زوجتي العزيزة) لأن كلمة "فكرية" كلمةٌ كبيرةٌ ودائما ما يصيبني الاستياء من الكاتب الذي يرسل مع مقاله تعريفاً لنفسه على أنه "مفكر"! وهذا مختلف طبعا عن أن يقوم كاتب بوصف كاتب آخر بأنه "مفكّر" فهذا حقُّه.
إذن الدرس الأخير الذي يأتينا في أدبيات الكتابة من الولايات المتحدة الأميركية يشمل أيضا الأكاديميين ويجب أن يشمل السياسيين حين يتصدّون لممارسة الكتابة بل كل فئات النخبة في هذا السياق.
آسف كثيرا للخطأ الذي وقع فيه كاتب صحافي مميّز مثل فريد زكريا أفضّله الى جانب المعلق الاقتصادي بول كروغمان ودايفيد إغناتيوس عن العديد من نجوم التعليق الأميركي بسبب الرصانة التي لا تفارق تحليلاته حتى أكثرها إثارة. فالصحافي الذي يستطيع أن ينجح (وليس دائما) في مهمة الجمع بين الجاذبية والرصانة التحليلية يقوم عمليا بمهمة شاقة وتحتاج الى حرب يومية مع النفس و الوقائع والمصادر المكتوبة والشفهية. وفريد زكريا هو بين هذا النوع من الصحافيين. ولا أدري ما الذي جعله يضعف امام "طبق" صغير على مائدة سخية؟ هل هي كلفة الانتقال السريع من موضوع إلى موضوع آخر، الانتقال الذي يَسِم عملَ المعلقين السياسيين والذي يجعلهم عرضة دائمة لاحتمال هُزال معرفيٍّ لا يمكن تلافيه في بعض المواضيع مما يجعل الاستعداد الذاتي غير مُحْكَمٍ دائما؟ فتقع "الغواية" التجاوزية؟
كل ذلك لا يبرر الخطأ. قوة الصحافي في وجهها الآخر هي في العودة الى المصدر وتسميته أو الإشارة إليه (ولو في مجال تجهيله!) فكرةً أو شخصاً… فما أمتع الدقة… ما أمتع ممارستها. وكم أحب بول فاليري في قوله الرائع:
"خذ الوضوح وأعطِني الدقة".
وهذه "عبادة" مهنية رائعة في زمن المزيد من الانحطاط الأكاديمي الذي ينعكس علينا جميعا.
أما الجمع بين الوضوح والدقة حين يُتاح… فهو منية المنى بل نجاحها الأعلى الذي لا يملكه غير الأنبياء والآلهة والشعراء الكبار في حقول المعرفة والخلق.  

السابق
عن حزب الله وسر احتكامه للصمت
التالي
هذا ما قاله سماحة للقاضي