ما بعد بعد ميشال سماحة

أكثرية اللبنانيين انتقلت من الدهشة والاستنكار والتكذيب والتلفيق، إلى تصديق الرواية التي سرّبتها مراجع أمنية ذات ليل، وإلى اعتبار صمت الحلفاء الوثيقين، وكأنه اطلاع على الملف «المبكل»، الذي يدين الرجل بالتحضير لجريمة اغتيال «السلم الأهلي برمّته» في لبنان، بناء على «مبادرة أخوية» سورية، تقضي بأن تكون «الفوضى في لبنان» فرصة «بناءة»، لنجاة النظام مما هو آيل إليه.
الملف في طريقه إلى القضاء وأروقته وجواريره ومطالعاته وما يلزم من وقت، كي يصدر الحكم… إنما، وقبل ذلك، يبقى السؤال: ماذا بعد؟

كيف ستتعامل السلطة في لبنان مع «الشقيق السوري»؟ غدا، إذا اجتمع مجلس الوزراء، فأي قول سيقال، وأي موقف سيتخذ؟ وكيف سيتناول أفرقاء السلطة المتفرقون هذا الملف؟ هل سيجدون تسوية؟ وأي وحي إلهي يمكن أن يصوغ تسوية مع مسألة بهذا الحجم من الدماء التي كانت ستهدر؟ وأي حكمة ستهبط على أفرقاء، كي يفلحوا في رسم خريطة طريق، لا تحيد عن الحقيقة من جهة، ولا تدفع لبنان برمّته إلى الفوضى الدامية؟ هل باستطاعة السلطة أن تتكلم لغة واحدة إزاء سوريا؟ إزاء النظام؟ هل لغة القانون، أم لغة العلاقات المميزة، أم لغة المحاسبة، أم لغة الشكوى، أم لغة التذاكي، أم لغة مبهجة… أم لغة المواجهة؟ هل وكيف، وفي أي رهان؟ رهان سقوط النظام الصعب أم بقائه المستحيل؟ ليس في الجعبة راهنا، أي إمكان للخروج بموقف لا يحرج أحداً.. التغاضي والتذاكي يحرج فريقا قد يخرجه، وفتح معركة مع النظام السوري، يحرج فريقاً وازناً ويخرجه.

فماذا بعد؟
ميشال سماحة سيتراجع ملفه يوماً بعد يوم، (لقد استنفد اعترافه كل المفاجآت والأسرار) وسيسير وفق مسارات قضائية، ذات تأثر بالغ، بموازين القوى داخل الحكومة وداخل المجموعات اللبنانية… فماذا سيختار اللبنانيون، غير تياراتهم وزعمائهم وطوائفهم ورهاناتهم الخارجية؟
فريق الرابع عشر من آذار يشعر أنه يمتلك الحرية التامة في تسديد الضربات ويسعى إلى تسجيل الضربة القاضية التي تأخذ لبنان إلى المواجهة مع سوريا النظام، والاصطفاف مع المحور السعودي القطري الأميركي المؤيد للمعارضة السورية. منطلقاً من رهان يعوّل فيه على سقوط الأسد، وخروج لبنان من «الكابوس السوري».
فريق الثامن من آذار، يبحث في كيفية تفويت الضربات والخروج من المأزق، بحصر المسألة في القضاء، والاستمرار في السياسة، كأن شيئاً لم يكن… وما هو كائن، هو من اختصاص القانون، و«لننتظر الأحكام»، ولا مواقف قبل الأحكام، وعندها يبنى على الشيء مقتضاه.
لكن ذلك قد لا يجد من يأخذ به. وقد يكون الموقف «المتهاون» في هذه المسألة، فوق طاقة فريق الثامن من آذار على تحمله. كيف يمكن صرف هذا الحياد، إذا انعقدت طاولة الحوار؟ … ولا بد من مكاشفة، ولا بد من وضوح.

المقاومة الإسلامية في لبنان، في خندق واحد مع سوريا النظام، وحلفائه في إيران وأصدقائه في العالم، ولا تجد أبداً حرجاً في ذلك، لأن سقوط النظام في سوريا، يترجم عملياً، إضعافاً للمقاومة، وخنقاً لإيران… «حزب الله» في دفاعه عن سوريا، يدافع عن ذاته وعن مقاومته وعن مشروعه اللبناني، الاقليمي، العالمي. ولا مبالغة في ذلك، وليس ذلك تضخيماً. فرأس المقاومة مطلوب منذ العام 1993، و«جردة الحساب» و«عناقيد الغضب» وحرب تموز. وقد اشترك في هذه الحروب، إلى جانب الآلة العسكرية الاسرائيلية، دعم أميركي وغربي، وتأييد عربي، وتجييش لفريق لبناني… «حزب الله» سيشعر الخطر قادماً من الجنوب، ولكنه يستشعر خطراً أشد من محيطه، من دمشق إذا سقطت، من بيروت إذا أغرقت، من إيران إذا قصفت. فكيف يوفق بين موقف استراتيجي بهذا العمق وهذا الالتزم. وبين من يسعى إلى تفجير لبنان؟

ان حل هذه المشكلة يحتاج إلى أكثر من ليلة قدر واحدة. فالأقدار كلها، تجمعت في لحظة سياسية، محفوفة بالخسائر، ومثيرة للمخاوف.
فهل يتحمل حزب الله أخطاء حليفه، ومنها هذه الخطيئة المميتة؟
فلنستمر بالمكاشفة والوضوح، مع مزيد من إبداء القلق على المقاومة، خشبة خلاصنا الوطني والقومي، بما أنجزته سابقا، وبما تستعد له مستقبلاً.
لنضع بعض النقاط على الحروف، كي تصبح القراءة ممكنة وسليمة:

أولا: المقاومة في لبنان، سابقة على النظام السوري الراهن. بدأت قبل مجازر أيلول في الأردن… «فتح لاند» عنوان تلك المرحلة.
ثانياً: المقاومة الإسلامية في لبنان، سابقة على الدعم السوري لها.
ثالثاً: كان موقف سوريا من المقاومة الإسلامية، موقف الحذر. وتطور إلى محاولة الاحتواء. ولما فشلت سوريا في ذلك، عملت على تطويعها بالقوة العسكرية، ولما فــــشلت فرضت المقــــاومة نفسها، وصارت بالبرهان والتجربة (1993) ورقة لا بد منها لسوريا، فدعمتها واعتمـــدتها وحالفتها حتى في أحلك لحظـــاتها.
رابعا: سوريا التي احتضنت المقاومة الإسلامية، دعمتها بالسلاح وحضنتها بالســـياسة، وحرستــــها في لبنان، ومنعت أي فريق لبــناني من المساس فيها، كان ظهرها مأمـــوناً.

كل ذلك من الماضي، عندما كانت سوريا عاصمة الاستقرار الاقليمي. إنما، بعد اندلاع «الربيع العربي»، تحولت سوريا إلى عبء على حلفائها… تحملت المقاومة هذا العبء، وفق ما تقتضيه العلاقات الاستراتيجية. إنما… بعد ذلك، لا بد من السؤال، ولو ظل بلا جواب: هل بات النظام في سوريا خطراً على المقاومة الإسلامية في لبنان؟
إن المنطقة حبلى بالمخاض الكبير. ايعالون «يستبشر» تقسيماً يطال سوريا ولبنان. يذكّر بالمنطقة، إبان الحرب العالمية الأولى وما تلاها من تقسيم أنجز بحذافيره. فهل المنطقة دخلت بوابة التحولات الكبرى: عراق متعدد غير متحد؟ سوريا بلا أكراد ثم بلا سنة؟ لبنان لكل كانتوناته؟

ان أبواب الجحيم قد فتحت، فمن يغلقها؟
اننا نشهد من يوقدها في الخارج الدولي والاقليمي، وفي الخارج السوري، نظاماً ومعارضة، وفي الداخل اللبناني، بدءا من عبوات ناسفة، قيل إن سماحة نقلها من سوريا، لخلق «الفوضى البناءة»…
نحن في بلد الغرائب. فماذا لو طلع علينا غد قيل لنا فيه ان هذا كله فيلم مخابراتي؟
ميشال سماحة قيد الاعتقال، غير أننا لم ننجُ بعد؟
  

السابق
الجيّد والسيِّئ والبشع في سوريا اليوم
التالي
لماذا سماحة…؟