عن ميشال سماحة و«أبو إبراهيم» وآخرين

لا رغبة لي في الكتابة. أتمنى الصوم ولو طال، أو التقشف في القول ولو بلغ الصمت.
لا متسع لجديد. الملأ اللبناني ممتلئ، يفيض عن الفهم ويتخطى الإدراك. شبه بابل هو، حيث لكل فريق لغته الحاسمة والجازمة، وحيث للثأر السياسي نهج التصفية.
فماذا يقال عن ميشال سماحة؟ لا براءة لأحد في ما أطلق عليه من تهم، تم تسريبها، من مراجع ذات صلة، ولا براءة لأحد، في ما قيل عن براءته، من مراجع ذات صلة مناقضة.
ماذا يقال عن ميشال سماحة؟ كي يقال شيء ذو صدقية، لا بد من مرجعية لا لبس فيها. ولبنان تقيم فيه مرجعيات ملتبسة في ولائها وفي نزاهتها وفي أحكامها… فمن نصدّق؟ لدينا حاجة ملحة: «نريد أن نصدق أحداً». دلونا على من يقول للبنانيين حقيقة نزيهة عن الأهواء والأغراض… تراثنا السياسي القديم والراهن، تشوبه شكوك. فمن نصدق؟ هل نصدق فرعا أمنياً يشكك به فريق ويحتضنه فريق… هل نصدق مرجعية أمنية وقضائية، يسارع نصف اللبنانيين إلى تكذيبها، ويتسرّع النصف الآخر في تصديقها…
هل نصدق «فرع المعلومات» ذا الولاء الخاص، أم «الأمن العام» المحتضن من قبيلة سياسية: طائفية؟ أم نصدق أجهزة قضائية، ثبت، من زمن غير بعيد، أنها تفتي بالشيء وضده في آن: اعتقال المولوي وإخلاء سبيله. الافراج عن ضباط وعسكر ثم إعادتهم إلى «الأسر»، كفدية للسلم الأهلي. إصدار أحكام متفاوتة على عملاء يتشابهون في الارتكاب، ويختلفون في الانتماء السياسي والطائفي.
لدينا قابلية الشك بالحقيقة ولو كانت ناصعة، فقد يكون ميشال سماحة متورطاً وناقلا لرسائل ملغومة، ومع ذلك، فلا إجماع على تصديق الحقيقة ولو أثبتت، على طريقة القديس توما، بالأدلة الواقعية… الظن حمّال شكوك… النيات أساس الاحكام… وعندها، يتساوى الحق مع الباطل.
وقد يكون ميشال سماحة بريئا، فمن يصدق براءته؟ سيقال في براءته ما يطيب لفريق ان يعزف عليه من أدلة، ولن تنجو الأطراف المتدخلة من اتهام.
ليست لدينا أجهزة ذات صدقية. المرجعيات التي يركن اليها نظرياً، ذات قدرة تلفيقية هائلة… الأمن صندوق الحقائق والأكاذيب، أو، هو صندوقة الحقائق المكذبة، والأكاذيب المصدّقة… هذا هو المرض الذي لا شفاء منه، والذي أصيبت به جمهوريات وملكيات العالم الثالث. أما القضاء، فحديث طويل، يمكن اختصاره، بأذن الجرة. والجرة بلد من فخار، ينعطب أو ينكسر.
أسئلة كثيرة أحيطت بتوقيف ميشال سماحة، ولكل فريق إجاباته، والصامتون ينتظرون طريقة لإخراج مواقفهم بالتي هي أحسن… لا شك في ان أصحاب الحل والربط باتوا على علم بالتفاصيل… سرية التحقيق تلفيقة. بضاعة التحقيق ملقاة على قارعة السياسة. والإعلام لا يتوقف عند دقة المعلومات، المفترض ان تكون سرية. يلقيها على علاتها، ولا يتورّع عن التشديد عليها أن ناسبت اهواءه، أو التبخيس بها، ان شذت عن هواه السياسي.
من نصدق؟
تهمة لوزير سابق، مقرب من الرئيس بشار الأسد، ومن تيار 8 آذار، بنقل متفجرات لزرع الفتنة، ليست قليلة. وهي تزداد جسامة في ظرف سياسي يزداد فيه الشرخ بين اللبنانيين، حول كل شيء تقريبا، من النظام السوري إلى الثورة السورية، إلى قانون الانتخاب، إلى سلاح المقاومة، إلى ما تيسّر من أفعال يومية وأحداث مفاجئة تنبئنا بعنف مكتوم، قد ينفجر في طرابلس، أو في عكار، أو في البقاع الشمالي، أو في صيدا، أو في شوارع بيروت.
فماذا لو كانت التهمة صحيحة؟
ماذا ستفعل حكومة منقسمة ومهترئة ومخلخلة وآيلة إلى السقوط أو الجمود؟ هل تكتفي بالنأي، بينما التهمة تتخطى الموقوف، لتصل إلى النظام السوري؟ أي تسوية ستجترحها السلطة؟ هل تحصر التهمة بالشخص من دون بلوغ الرأس؟ هل تستطيع السلطة ان تخفي رأسها، وتكتفي بهز ذنبها؟
لا أعرف… إنما، لم تعد السلطة قادرة على الوقوف في منزلة بين المنزلتين، لم يعد طلب «السترة» مقبولا. ففريق 14 آذار، العامل ليل نهار على مدار الساعات والأيام والأشهر على إسقاط الحكومة، ليأخذ البلد إلى مواجهة مع سوريا، وفق الرغبة الخليجية المعلنة، سيجد متسعاً من الساحات لمنازلة الحكومة وفروعها المتشددة وتياراتها المبعثرة.
ما كان لي رغبة في الكتابة. فالكتابة في العتمة عرضة للوقوع في الخطأ، والخروج عن السطر. والكتابة في أروقة الاصطفاف المبرم، ليست سهلة، إذ غالباً ما تقع في الاتهام المزدوج، فيقال لك: «احسم أمرك يا أخي»، مع أو ضد. مع النظام السوري أم ضده، مع التهمة للوزير سماحة ولو غير مؤكدة، او ضدها ولو تأكدت؟
الملأ اللبناني حافل بالغرائز.
مكتظ بالغضب. ممتلئ بالثأر… لذلك، فلا سياسة في لبنان، ولا أمن في لبنان (إلا بالتراضي والتذاكي) ولا قضاء في لبنان ولا إمكان للاستقرار ولو لأيام، من دون مفاجآت، من عيار «الأسير» و«المولوي» و«الكويخات» و«عودة القاعدة» إلى المخيمات، وأخيراً… مفاجأة توقيف سماحة على خلفية أمنية، وقد تتحول إلى سياسية… والله أعلم.
لعله من الحكمة عدم تصديق أحد. لعله في غاية التعقل ان تقيم في الشك وتحتمي به، محارباً اليقينيات المبرمة، مفضلا الانتظار إلى ان تظهر الحقيقة، ذات يوم، ولو بعد فوات الأوان، كما ظهرت حقيقة الضباط الأربعة الذين اعتقلوا، وكادوا يقنعوننا، بأنهم مرتكبو جريمة اغتيال الرئيس الحريري.
كان من الأفضل اختيار موضوع آخر للكتابة، كأن أكتب عن كذبة «قانون النسبية» الذي رغبت الحكومة من ورائه في ان نلهو به، ونتسلى بفقراته، إلى أن يحين موعد رجوع الشيخ إلى صباه في قانون الستين، أو إلى طلاق موقت مع موعد الانتخابات.
كان من المفضل اختيار موضوع المخطوفين و«أبو ابراهيم» للكتابة. وهذا الموضوع فيه الجنون والابتكار الاعلامي والتوظيف السياسي والاخراج الفني، ما يجعله في رأس قائمة الانحطاط، إذ لا انحطاط يدانيه أو يبلغ قاعه.
كان يمكن الكتابة عن المخطوفين الضحايا الذين لقنوهم كيف يُمتدح الخاطف. حدث ذلك في كتاب جورج أورويل، وبات المسحوق والمعدم، محباً لإله «الأخ الأكبر»… لقد ارتكبت جريمة بحق هؤلاء المخطوفين المنكوبين. ليس الإعلام المرئي لعبة الجلاد. أظهر «بؤساء» لبنان المخطوفين الأبرياء، كأنهم من عبدة الوثن الابراهيمي، الملقب بأبي ابراهيم.
الخطف جريمة. والخاطف مجرم. والمخطوفون أبرياء. فكيف يسمح للخاطف، باستعمال الإعلام بهذا الرخص… لم يحدث ذلك من قبل. الهستيريا التنافسية، أخذت الإعلام إلى مطارح خطرة. لم تجرؤ وسيلة اعلامية أن تصبح وسيلة دعائية للخاطف، ولو كان الخاطف منتمياً إلى الثورة السورية، التي تلقت اساءة بسبب تورط أحد «قادتها» الميدانيين بخطف أبرياء.
نحن من لبنان يا ناس. لدينا أكثر من عشرين ألف مخطوف. من منكم ذاق طعم الخطف؟ من منكم تذوق مرارة الأهل الذين انتزع منهم أولادهم؟
ألهذه الدرجة بلغت هستيريا التنافس؟
لقد هزلت جداً… وإنه لمن المفضل ان تكون أعمى كي لا ترى ما يدلق على المشاهدين، ولمن الحكمة ان تكون أصم، كي لا تسمع النفاق والابتزاز. وانه كان من المفضل ان أترك هذه المساحة بيضاء، وألا أكتب سوى كلمة مهذبة وحيدة: تباً لي.
  

السابق
الشرق الأوسط: حزب الله: توقيفه فبركات أمنية لن نسكت عليها
التالي
ما دام نفوذ المحور السوري – الإيراني مؤثّراً حكومة ميقاتي باقية