دراجة دفع «الثورة» النارية في سراقب صينية الصنع ولكل ثلاثة مقاتلين بندقية واحدة

 الدراجات النارية، وسيلة نقل السواد الأعظم من الناس في مدن ريف إدلب وقراه، جميعها صينية الصنع، وهذا ليس تفصيلاً عابراً في حياة من يقودها في هذا الريف الزراعي، فالصين عدو الثورة، مثلما هي روسيا وإيران وبعض لبنان ومعظم العراق، على ما يعتقد كثير من «الأدالبة». إنهم يقودون تلك الدراجة التي يكرهون الدولة التي صدرتها لهم، وهم انتبهوا بعد الثورة كم أنها دراجة غير أنيقة، وكم أنها وظيفية ولا تليق بالثوار، وأن الضوء المنبعث من مصباحها أبيض مثل مصباح الـ «نيون». فالناس هنا على رغم الموت الذي عممه النظام على كل القرى، أيقظت فيهم الثورة رغبة عارمة في الحياة والانتماء إلى ما لا يُمثله نظامهم من ضيق وانكفاء. يريدون مشابهة العالم بأذواقه وأمزجته، وها هي الثورة تعطيهم أملاً بتحقيق ذلك.

المقاتلون يريدون أن يُشابهوا شيئاً غير «الموديل» البعثي للمقاتل، والشباب استقدموا أزياء جديدة لسراويلهم وقمصانهم من تركيا، وأي شيء جديد يقع تحت أنظارهم يطمحون للاقتراب منه.

من يأتِ من الصحافيين إلى هذه القرى باحثاً عن الإسلاميين الذين ضجّت وسائل إعلام عالمية بأخبارهم في سورية، فلن يجد أثراً كبيراً لهم في شمال غربي سورية. وسيكون غيابهم عن مشهد الثورة والحرب مدهشاً. المقاتلون هنا «مسلمون وليسوا إسلاميين» هذه الحقيقة التي يرددها جميع من تلتقيهم، لا تنطوي على مقدار من المبالغة. لا بل على العكس من ذلك، فمن المؤكد أن جماعة الإخوان المسلمين مثلاً تملك رصيداً سلبياً في وعي السكان، ذاك أنهم يعتقدون أنها زجتهم في مواجهة غير متكافئة وغادرت البلاد. هذا ما تسمعه من عشرات الناس هنا، ثم إن النظام الذي تولى شيطنة هذه الجماعة في وجدان السوريين، لم يجد من يقاومه في ذلك، لا بل إن انسحاب الجماعة من المجتمع السوري سهل مهمة النظام، وألقى غموضاً سلبياً على الحقائق المتعلقة بها.

للسلفيين حضورهم التقليدي في البيئة الإدلبية المتدينة أصلاً، لكنه ليس حضوراً عاماً ومرشحاً للتوسع، إذ إن نخبوية هذه الجماعات تجعل من احتمالات تحولهم خياراً عاماً أمراً مستبعداً.

أما السلاح فهو قضية أشد غرابة ستواجه الآتي إلى سورية، فالكلام عن أن سورية صارت وجهة للدول الراغبة في تزويد الثوار به لا أثر له في كل قرى وبلدات إدلب. السلاح في أيدي الجيش الحر متآكل وقديم، وقطعة السلاح الواحدة تتناقلها أيادٍ كثيرة، والناس يشعرون بمرارة نتيجة عدم استطاعتهم الحصول عليه، أين منها مرارتهم نتيجة ندرة الأغذية والأدوية. في مركز قطنا الحدودي الذي يدير من خلاله الجيش الحر حركة الداخلين والخارجين من سورية إلى تركيا كانت هناك قطعة سلاح خفيف واحدة لا غير. إنها «فال» البلجيكية الصنع، وهي بندقية طويلة لا تصلح لغير جنود الجيش النظامي، وراح مسؤول المركز «الخال ظاظا» يطلب من جنوده غير المسلحين أن يتداولوا حملها بحسب المهمات الموكلة إليهم. «الخال ظاظا» الذي كان يحمل مسدس «ماغاروف» روسي الصنع، بالغ في التعويل على مسدسه اليتيم لتظهير شخصيته العسكرية، هو القائد الجديد الآتي إلى العسكرية من مهنة النجارة، ومطلق اللحية التي يكاد المرء يعتقدها سلفية لولا تعثر الخال وحيرته في الإجابة عن هوية لحيته.

كم يبدو جائراً القول إن الثورة السورية تسلحت ولم تعد ثورة. جائر ليس لأن الثورة ما زالت ثورة، إنما لأن الناس لم تتسلح بعد. مجموعات الجيش الحر الذي قد يعتقد المرء أنها مسلحة لأنها أطلقت على نفسها اسم «جيش» يُقدر أعداد المسلحين منهم 4 من عشرة في مدينة سراقب، وخمسة من عشرة في بلدة بنش، وهذه النسب تتكرر في معظم البلدات. السلاح لا يصل من جهات وأطراف غير محلية. كثيرون اشتروا سلاحاً من مدخراتهم، أو من هبات قدمها سوريون من «أغنياء» الاغتراب، وهي أسلحة بائسة ومتآكلة. الكلاشنيكوف الذي كان بحوزة مصطحبنا من بنش إلى سراقب كان هزيلاً وقديماً. إنه صيني وصُنع عام 1956، أما الرجل الآخر الذي جلس إلى جانبه، فكان كلاشنيكوفه بلا «أخمص»، وعندما عبرنا على أوتوستراد حلب – دمشق في الليل وفي منطقة معرضة لاحتمال وجود «سليبة» من بدو المنطقة أقدم الرجلان على تلقيم رشاشيهما بالطلقات استعداداً لهذا الاحتمال، فسمعنا صوت الأقسام المتحركة في رشاشيهما مترافقاً مع اصطدام معدنهما بالخشب المتآكل، إلى حد يشعر معه المرء بأن سلاحيهما لن يلبيانا في المواجهة المحتملة.

لا سلاح يأتي إلى سورية من خارجها على نحو منهجي ومنظم، أو على الأقل لم نعاين في أيدي الثوار الكثر الذين التقيناهم أجيالاً من الرشاشات المتجانسة التي من الممكن أن تكون جهة من الخارج أرسلتها. وعند سؤال المجموعات المختلفة عن مدى صحة القول إن السلاح بدأ يصل إلى سورية، فإن معظم الإجابات لم تكن نفياً، إنما تحاملاً على الدول لتسليحها مجموعات أخرى من المعارضة «سمع» أن بحوزتها سلاحاً جديداً.

«إنهم يسلحون جماعات أخرى غيرنا»، هذا ما تسمعه من جماعات الجيش الحر في معظم المدن والبلدات هنا، وأنت إذ تشرع في البحث عن «غيرنا»، لتعاين سلاحهم وتستقصي الجهة التي ترسل السلاح، لن تجد ضالتك. نقص السلاح والذخائر أمر يشمل الجميع، ثم إنه لا أثر لسلاح يتعدى الرشاشات العادية وبعض السلاح المتوسط، وربما مدافع هاون من عيارات صغيرة. والناس هنا، إذ راحوا ينتظرون السلاح، حفظوا أسماء ما يتوقعون وصوله إليهم منه. القذائف المضادة للطائرات والصواريخ الصغيرة المضادة للدروع، كل هذا مما لم يصل بعد.

للمجلس الوطني السوري سمعة غير جيدة في أوساط السكان. إنه الهيئة الأكثر قرباً منهم بين أطراف المعارضة، لكنه أيضاً الهيئة «الفاسدة» التي وصلت إليها المساعدات لكنها لم ترسلها. كثيرون من الناشطين زاروا مكتب المجلس في اسطنبول وعادوا منه بلا مساعدات على ما يقولون. الجناح العسكري للمجلس أيضاً، أي الجيش الحر الذي يقوده رياض الأسعد، هدف لغضب السكان والناشطين، فهم يعتقدون أنه عاجز عن تسليحهم، وبعضهم يقول إنه ممتنع عن ذلك. رياض مجنّد منشق من حماة التقيناه في بلدة قطنا، كان متوجهاً إلى اسطنبول في محاولة للقاء رياض الأسعد، قال: «أنا مجند منشق ومتدرب، لكني لا أملك رشاشاً أقاتل به… في حماة لكل ثلاثة مقاتلين رشاش واحد». كان غاضباً، وهو أطلق لحيته وحلق شاربيه من دون أن يكون سلفياً ولا متديناً، وقال إن والده الذي يُدرّس الموسيقى في مدرسة رسمية في حماة توقفت الحكومة عن دفع راتبه بعد أن علمت بنشاط ابنه في الجيش الحر.

أما في بنش فقد استعاض المقاتلون عن الشاحنات التي تنقل الرشاشات المتوسطة المتواضعة المضادة للطائرات، بأن قاموا بتـثبيت رشاش الـبلـدة (لكل بـلدة رشاش واحد مـع استـثناءات للـمدن الصـغرى) في حاوية محلية الصنع تنقلها بصعوبة دراجة نـارية صينيـة الصـنع، يئن محـركها أثـناء تـجوالها في شـوارع البـلـدة بـحيث إنك تشـعر دائماً بـأن الدراجة على وشك الهلاك.

ليست المرارة وحدها ما يشعر به السكان حيال أداء المعارضة في الخارج، بل شعورهم بأن جماعة غريبة عنهم هي من تتصدى اليوم لتمثيلهم. هؤلاء الذين في اسطنبول كانوا غادروا سورية منذ عشرات السنين، وهؤلاء الثوار والمقاتلون كانوا نشأوا وتشكلوا بعيداً من أنظار ممثليهم الجدد. الجيش الذي يقتلهم كل يوم بصمت وبلا رحمة، ثمة قنوات بينه وبينهم. يفهمونه ويعرفون جيداً وحداته وضباطه، وثمة لغة بينه وبينهم. صحيح أنها لغة عنيفة، وهي صارت أثناء الثورة دموية، لكنها الخصومة التي تُنشئ فهماً وتوقعاً وسياقاً من العلاقات والتبادلات. أما من يقيم في اسطنبول فهم غرباء نشأوا غالباً في أوروبا، وجل ما يربطهم بالناس أو بأقاربهم هنا هو رسائل ومحادثات هاتفية متباعدة.

الليل في سراقب أليف على رغم أن القنّاص من مهجعه في برج الإذاعة يُطلق رصاصة كل عشر دقائق مذكراً بوجوده ومحذراً عناصر الجيش الحر في البلدة من الاقتراب منه. أما القذيفة التي يتكرر سقوطها كل ساعة على منازل البلدة، فتطلقها دبابة من موقع معمل الزيت الذي يبعد نحو ألف متر عن آخر منزل في البلدة، وهي قذيفة غير تحذيرية، غالباً ما تصيب منزلاً وتوقع قتلى وجرحى من السكان غير الهلعين، ليس بسبب شجاعتهم، إنما لشعورهم بأن ذلك قدر لا يمكن تغييره إلا بالسلاح، ولا سلاح اليوم في حوزتهم يضاهي سلاح الدبابة في جوار منازلهم.

ها هي عائلة بأكملها أصيبت في الليلة التي أمضيناها في سراقب. وفي تلك الليلة لم يتوقف رسام الجدران في البلدة عن خط الوجوه والشعارات عبر خطوط فحمية يتولى منسق الإعلام في ثورة بنش تصويرها وإرسالها عبر «يو تيوب» إلى العالم، وأحياناً إلى صحافيين عالميين صاروا أصدقاءه بعد عبورهم إلى سراقب لتغطية ثورتها.

 

السابق
القاء القبض على سارق صيدلية في صريفا
التالي
لبنان: المكلف بالتفجير هاله المخطط الدموي فكشفه