الجنوبيون… والشتلة المرَّة

التبغ هو اللقمة المرة.. مرّ المذاق تماماً كمرورة زراعته، هو الطفل المدلّل من حيث الزراعة والجهد المبذول في تربيته، يتطلّب من المزارعين تمضية أغلب وقتهم في زراعة شتوله، وعلى الرّغم من مرارة زراعته إلاّ أنّ تركه صعب. والشق التقني من عملية زراعته يجذبك نحو تفاصيله، غير أنّ الأجواء المرافقة لهذه الزراعة تبدو أكثر جاذبية.

منذ مطلع الفجر
منذ خيوط الفجر الأولى يستيقظون، يحاربون النعاس الذي أثقل أجفانهم إنّه موسم قطاف الدخان الذي يهّم في تحضيره قسم كبير من اللبنانيين عموماً، والجنوبيين على الخصوص، قبل أن تجفّف قطرات الندى عن وجه أوراق الشتول، ليسهل عليهم قطافها، فهي تصبح قاسية إذا ما جففها دفء الشمس. ينهون قطافهم مع انتشار الضوء على الأراضي، ويعودون إلى بيوتهم منهكين قرابة الثامنة صباحاً. يتناول المزارعون وعائلاتهم فطورهم، لتبدأ بعده عمليّات "الشك" في الميبر، وتستمر هذه العملية قرابة ست ساعات، تذهب بعدها أوراق التبغ نحو التجميع في الخيطان والتجفيف. وخلال عملية "الشك" تحضر وسائل التسلية كالعتابا، الراديو، وحديث لا بدّ منه عن الزيجات والطلاقات الحديثة العهد.

في أواخر الخريف
مراحل زرع التبغ: في أواخر الخريف تبدأ فلاحة الأرض وتهيئتها استعداداً لاستقبال شتلة التبغ. وفي تشرين الثاني أو شباط تبدأ عملية رش البذور في المشاتل المخصصة لها، وتغطى بالبلاستيك لتأمين الحرارة اللازمة لها، ويعتنى بها حتى تنمو تلك البذور وتتحول شتولاً صغيرة تقتلع في فصل الربيع لتعاد زراعتها مجدداً في الأرض ويختار منها الشتل الجيد.
أمّا القطاف فيتم صيفاً، في منتصف شهر أيار، بعد أن تتعرّض الأوراق لحرارة الشمس. يذهب المزارعون الى الحقول فجراً لقطافه ندياً قبل الشروق، ويعودون الى البيوت لشك أوراقه ورقة بالميبر ثم يفرغ بالخيوط المخصصة له، وينقل الى المنشر أو السقالة لتجفيفها تحت أشعة الشمس. بعد إنجاز هذا العمل في انتهاء الموسم تأتي مرحلة الترطيب، التي تبدأ بجمع الخيوط كل خمسة تشكّل صندلاً (كما يسمى) وتعلّق في أسقف البيوت تمهيداً لآخر مرحلة وهي "التصفيط" أو التوضيب وهو عبارة عن تفريغ الأوراق من الخيوط وصف الأوراق فوق بعضها، ثم تصف في صندوق خشبي مسمّى بالطرد مغلّف بكيس من الخيش ثم يسحب الصندوق ويخيط الطرد بعد ضغطه لمدة تتراوح بين ثماني الى اثني عشرة ساعة. وبعد ذلك يبقى تسليمه الى شركة الريجي في شهري كانون الثاني وشباط، وإذا طالت المدة يخاف عليه من الرطوبة والتسوّس والتعفّن وبهذا ينتهي العمل المضني الذي يبقى على مدار السنة.

منطقة الإنتاج الجيِّد
أهم عوامل نجاح الزراعة هي ثلاثة: التربة، المناخ، اليد العاملة الفنية الماهرة ذات الخبرة. وأهم المناطق المشهورة بالإنتاج الجيد، هي تلك التي تقع في قضاءي بنت جبيل ومرجعيون، حيث أنّ مناخ الجنوب يختلف مثلاً عن مناخ البقاع أو تربة البقاع، وتضاريسه تختلف عن تلك التي نجدها في الجنوب، وبما أن التبغ كسائر المزروعات يحتاج إلى تربة ومناخ ملائمين فلهذا نجد تبغ الجنوب أفضل نوعية من باقي المناطق شمالاً وبقاعاً. والمناطق المرتفعة في بنت جبيل ومرجعيون أفضل نوعية بإنتاجها من المناطق الساحلية في الجنوب.
زراعة التبغ في لبنان قديمة بدأت أولاً في الجنوب، وانتقلت حديثاً الى مناطق أخرى كالبقاع وعكار. رُخَصُ زراعة التبغ كانت في السابق (منذ الإستقلال) محصورة بالمحظوظين وأصحاب النفوذ في القرى والبلدات حيث يملك الواحد من هؤلاء عشرات الرخص لعشرات البلدات، يقوم بتأجيرها للمزارعين، الذين لا يستطيعون في نهاية موسمهم الزراعي، سداد ديونهم المتراكمة التي استدانوها حتى حصاد الموسم.

انطلاقاً من تلك المعاناة، قامت إدارة الريجي بدءاً من العام 1993، باعتماد مشروع تنظيمي يربط منح إذن زراعة التبغ بجملة من الشروط، منها أن يكون صاحب الرخصة مقيماً في بلدته، وأن يكون ربّ أسرة ومزارعاً فعلياً، وبذلك أتيح للمزارعين الحصول على التراخيص.
في الخلاصة وبالرغم من انعدام الحوافز الكثيرة لمواصلة زراعة التبغ، يبدو أن هناك خوفاً لدى المزارعين بما يتعلق بالتحول إلى زراعات بديلة، يغيب عنها دعم الدولة، والبلديات التي لا تقدم أي نوع من المساعدة للزراعة، فينحصر الدعم من قبل منظمات غير حكومية في بعض المناطق المحدودة.
  

السابق
صائب عريقات يتهم إسرائيل بتدمير حل الدولتين
التالي
تنديد دولي بسياسات طرد الفلسطينين والإستيلاء على الأرض