من المريخ إلى الأنفاق

نحن شعوب الانفاق. نولد فيها ولا نغادر. نشرب ظلمتها ونتغذى بالرطوبة والعفونة. مدارسنا انفاق وجامعاتنا انفاق. كتبنا انفاق موصدة وعقولنا انفاق محكمة. وفي تلك الانفاق عصبيات مسنونة وجيوش موتورة واحزاب معتمة ومطابخ تضليل. لم تكن لدينا دول. كانت لدينا انفاق كامنة تتربص. تنتظر لحظة الفتك للانقضاض على سكان النفق المجاور. اذا اطلت فكرة استدرجناها الى النفق. واذا اقترب ربيع ارسلنا الانفاق لاغتياله.

كان الخبر ممتعا ومفيدا. وكانت المذيعة لبقة ولطيفة. هبط المسبار العلمي «كوريوسيتي» غير المأهول على المريخ بنجاح وبدأ يرسل الصور الى الارض بعد ثماني سنوات تقريبا من بدء برنامج وكالة الفضاء الاميركية «ناسا» لاكتشاف الكوكب الثاني الاصغر في المنظومة الشمسية. وظهر جليا ان الولايات المتحدة احتلت «الكوكب الاحمر» بعد حوالي اربعين عاما من «احتلال» القمر في 21 تموز(يوليو)1969.
فور هبوط المسبار اتصل الرئيس باراك اوباما بالمركز مهنئا. قال:» انها خطوة هائلة الى الامام في استكشاف الكوكب. لم يقم احد قط بشيء من هذا القبيل. كان اداء رائعا انه انجاز سنفخر به على الدوام».

اغمضت عيني امام الشاشة. تصورت كم سيكون جميلا ان تبث شاشة عربية خبرا مفاده ان زعيما عربيا اتصل بعلماء عرب يهنئهم فيه على انجاز علمي يعود بالتقدم والخير على بلدهم والانسانية معا. وخشيت ان اذهب بعيدا في الهذيان فعدت الى الشاشة.
اوردت المذيعة اللطيفة الخبر كمن تراوده في الوقت نفسه رغبة في الاعتذار. ولعلها بحكم التجربة ادركت ان المشاهد يريد اخبارا حارة ومثيرة. وانه لن يجد اي معنى لدس خبر هامشي من هذا النوع في نشرة اخبار محترمة تزود القارئ يوميا بما لا يقل عن مئتي قتيل.

لدى انتهاء الخبر انتابني خوف غريب. خشيت ان تستقدم المذيعة عددا من المحللين الذين يتكررون ويكررون ويلحقون ضررا بالغا بعقل المشاهد ومشاعره وقدرته على النوم. خفت ان يطل احدهم وينكر ان المسبار قام برحلته وان الهدف من المشاهد المفبركة هو الترويج للغرب الفاسد. لا بل انني خفت ان يقول محلل ان عملية ارسال المسبار ليست بريئة وانه يجب التفتيش عن اصابع الموساد الذي عجز عن اختراق البلدان العربية برا فقرر التجسس عليها انطلاقا من المريخ. خفت ايضا ان تستنكر مجموعة جهادية الاحتلال الاميركي للمريخ وان تعلن عن فتح باب التطوع لارسال انتحاريين لتطهير الكوكب من المسبار ومهماته العلمية المشبوهة. ولا

انكر انني خشيت ان تعلن ايران في اليوم التالي عن جيل جديد من الصواريخ قادر على الوصول الى مواقع «الشيطان الاكبر» على الكوكب الاحمر.
انتهينا من المسبار وعدنا الى الشرق الاوسط. تكسر القلب المشاهد الوافدة من حلب واخواتها. الجثث المتروكة في الشوارع. برك الدم في البيوت. صور العائلات المذعورة تفر باطفالها الى خيام في الدول المجاورة. لا يبكي العربي على التاريخ المهدد في حلب. يبكي على المستقبل المهدد في سورية. اخطر من البيوت المطحونة مشهد النسيج السوري الممزق ورائحة الطلاق بين المكونات. انتصار السلطة في حلب لا يخرجها من النفق بل يعمق اقامتها فيه. تدفق المقاتلين الجوالين وممارسات بعض المتعصبين تنذر بدفع المعارضة السورية الى النفق.

الخبر الآخر لا يفتقر الى الخطورة. انه عن الجريمة التي استهدفت موقعا لحرس الحدود المصري جنوب رفح. واضح ان المهاجمين ارادوا دفع مصر الى نفق رهيب باستباحة الحدود وهز صورة مصر وكرامة جيشها وقدرتها على ضبط حدودها والوفاء بالتزاماتها. فتح الحادث ملف الانفاق على مصراعيه. ولا يمكن اختصار الانفاق بتلك المحفورة عند حدود غزة. مسألة الانفاق ابعد واخطر.
الخبر الثالث يتضمن صورة لايرانيين اعتقلهم «الجيش السوري الحر». واضح ان المأساة السورية ادت الى دخول السياسة الايرانية في نفق لا يفضي الا الى تعميق النزاع المذهبي في المنطقة. خبر آخر عن زيارة داود اوغلو الى كركوك والاوضاع المستجدة في القرى الكردية السورية عند الحدود مع تركيا يظهر ان سياسة تركيا الاقليمية دخلت هي الاخرى في نفق.

يرسل آخرون مركبات الى المريخ ونرسل نحن اطفالنا الى المقابر او الى الانفاق حيث ندربهم استعدادا للحروب الاهلية المقتربة.
نشرة اخبار صغيرة تكفي لكشف موقعنا الكارثي في ما يسمونه «القرية الكونية». نحن شعوب الانفاق. نولد فيها ولا نغادرها.
  

السابق
عقدة بيت الحريري
التالي
حيث لا ينفع الضبط