سوريا من الحرب بالوكالة الى الحرب بالأصالة

توقف كثيرون عند تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون قبل أيام بأن الحرب في سوريا هي "حرب بالوكالة"، الأمر الذي إعتُبِر تطوراً لافتاً في الخطاب المعتمد في الامم المتحدة الذي لم يكن يرى في ما يجري في سوريا إلاّ نظاماً يقتل شعبه.
ويتساءل سياسيون، بعضهم قريب من دمشق، عن سر هذا التطور المفاجئ في خطاب الأمين العام للامم المتحدة المعروف بعلاقته الوطيدة بالإدارة الأميركية، فرأى فيه البعض تعبيراً عن تراجع في الموقف الغربي عموماً، والاميركي خصوصاً، إزاء الازمة السورية بسبب شعور واشنطن وحلفائها بقوة النظام السوري وتماسك جيشه، كذلك بسبب تزايد عدد المسلحين المتشددين داخل صفوف المعارضة السورية.

ويعزز هؤلاء السياسيون تحليلهم هذا بإزدياد حدة الخلافات داخل صفوف المعارضة المسلحة، سواء بين معارضي الخارج الذين باتوا معارضات عدة، او بين مسلحي الداخل حيث ترتفع اصوات متعددة تندد بمجموعات مسلحة، وتدعو الى سيطرة "الجيش السوري الحر" عليها وهو ما برز جليا في الهجوم الذي شنته عناصر من هذا الجيش على مجموعة "أبو إبراهيم" المسؤول عن خطف اللبنانيين الـ11 في ريف حلب، كذلك تجلّى في شهادة صحافي هولندي كانت مجموعات مسلحة قد اختطفته الى أن حرره "الجيش السوري الحر"، وقد جاء في شهادته ان "خلافات حادة" تدور بين المعارضين المسلحين حول مستقبل سوريا.

وتجلى ذلك أيضاً في تصريح ادلى به متطوع ليبي غادر مواقع القتال في سوريا ليعلن من طرابلس الغرب عبر وكالة انباء ليبية "ان الجهاديين في سوريا هم مجرد عصابات للسطو والابتزاز المالي"، مشيراً الى "ان مجموعة من المسلحين قد فاوضت أسرة مجاهد كويتي قُتل في المعارك وطالبت أهله بارسال مئة الف دولار لدفعها للجيش السوري مقابل استرجاع جثة إبنها، على رغم ان الجثة موجودة لديهم وأن الابن كان متطوعاً في صفوفهم".

وهذا الانطباع اكده في الامس ايضا أحد قادة "لواء التوحيد" الشيخ ابراهيم الزعبي الذي قال أن "ابا ابراهيم" خاطف اللبنانيين الـ11 هو "رجل مخدرات ولا علاقة له بالثورة".

لكن فريقاً آخر من هؤلاء السياسيين رأى في تصريحات بان كي مون إقراراً بوجود نزاع إقليمي ودولي على سوريا، وهو إقرار يُمهّد لانتقال هذا النزاع من حرب بالوكالة إلى حرب بالاصالة. ويستند هذا الفريق في تعزيز وجهة نظره إلى جملة أحداث تمتد من شرق المملكة العربية السعودية إلى شمال شرق سوريا مروراً باشتباكات تركية ـ كردية على الحدود مع العراق وبخطف 42 إيرانياً على طريق مطاردمشق، وإطلاق الإسرائيليين النار على مواطن سوري تسلل إلى الجولان المحتل.

لكن التطور الأبرز، في نظر هؤلاء المراقبين، يكمن في الجبهة التركية ـ السورية حيث يتحدث السياسيون أنفسهم عن ضغوط أميركية متزايدة على حكومة رجب طيب أردوغان لتوريطها عسكرياً في الأزمة السورية، بعد أن تورّطت سياسياً وإعلامياً وأمنياً واستخباراتياً في هذه الأزمة، خصوصاً في ظل الحديث عن وجود جنرال تركي بين المعتقلين لدى القوات السورية في حلب.

وفي هذا الإطار، يشير السياسيون أنفسهم، إلى أن الإعلام الأميركي قد نشر قبل ايام صورة للرئيس باراك أوباما وهو يهاتف أردوغان، حيث بدا حاملاً عصى "البايسبول" بيد وسماعة الهاتف باليد الأخرى. ويقول هؤلاء إلى أن نشر هذه الصورة، وعلى هذا النحو، هو في حد ذاته رسالة في أكثر من اتجاه، فهي تتضمّن استخفافاً بأردوغان الذي لم يتلقَّ سوى اتصاليَن هاتفيين من أوباما هذه السنة، فيما كان تلقى منه 15 اتصالاً في العام الفائت.

كذلك تتضمن أيضاً تلويحاً بالعصا لتركيا إذا لم تقم بما يتوجب عليها من تدخّل عسكري في سوريا يعفي الولايات المتحدة والحلف الأطلسي من التورط في الأزمة السورية مباشرة، ويُبقي النزاع الدموي بين أطراف إقليمية تُهرق دماء أبناء المنطقة.

ويربط السياسيون إياهم بين هذا الضغط الأميركي على تركيا وبين زيارة وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون إلى أنقرة هذا الاسبوع حاملة طلباً واضحاً من تركيا بالتدخل العسكري المباشر في سوريا.

وعلى رغم من أن أردوغان لا يقل حماسة عن واشنطن وغيرها من عواصم الغرب في السعي الى إسقاط النظام السوري، فإنه كان إلى وقت قريب يربط بين تدخل بلاده المباشرفي سوريا وبين تدخل دولي أو أطلسي على الأقل، وقد خذله الحلف الأطلسي إثر لجوئه إليه بعد إسقاط دمشق الطائرة التركية فوق المياه الإقليمية السورية.

ويحاول أردوغان أن يبعد كأس التدخل المباشر عنه لجملة أسباب أخرى، منها توسع جبهة المواجهة التركية مع الأكراد إلى جبهتين، إحداهما في الشمال العراقي والثانية في الشمال الشرقي السوري، وهو توسع يمكن أن يؤدي أيضاً إلى مجابهات مع العراق وإيران إضافة إلى سوريا، ناهيك بالدب الروسي المتربّص والتنين الصيني القادم إلى المنطقة بحراً وهو يحرز تفوقاً إثر تفوق في "أولمبياد" لندن ليظهر وكأنه الدولة الأولى في العالم.

وما يضعه أردوغان في لائحة الذرائع التي تحول بينه وبين التدخل المباشر المنفرد في سوريا، هو الوضع الداخلي في تركيا حيث لا يخفي جنرالات الجيش حنقهم، خصوصاً بعد إقالة 40 ضابطاً كبيراً منهم، وحيث تتصاعد النقمة بين العلويين الأتراك، وعددهم بالملايين، ممن كانوا دعامة أردوغان في السابق، بالإضافة إلى تنامي المعارضة القومية وعلى رأسها حزب "الشعب" المعارض، والمعارضة الإسلامية بقيادة حزب "السعادة" التي لا تصدق أن الإسلام يمكن أن يتحالف مع "الناتو"، وإن الحكومة الإسلامية يمكن أن تحكُم بـ"التقية" من العلمانين.

وحتى الأوضاع الاقتصادية التي كانت تعتبر مصدر قوة اردوغان الأساسية، فإنها مهددة اليوم بسبب تداعيات الأزمة السورية والتوتر مع العراق وإيران وروسيا، خصوصاً أن تجارة تركيا مع هذه الدول كانت تفوق عشرات المليارات من الدولارات سنوياً.

وعلى رغم من وعود خليجية بصرف مبالغ ضخمة لتركيا مقابل تدخلها العسكري المباشر في سوريا فإن حكومة أردوغان التي تجيد "المُفاصَلَة" تعتقد أن هذه الأموال هي مقابل الخدمات التي تؤديها تركيا، ولكنها ليست كافية حين تسيل دماء تركية في الحرب مع سوريا.

فهل تنجح كلينتون خلال زيارتها هذا الاسبوع لأنقرة في نقل الحرب في سوريا من حرب بالوكالة إلى حرب بالأصالة تتمناها الدوائر الإسرائيلية في مراكز القرار لدى عواصم الغرب، كما تعقد عليها الآمال بعض حكومات المنطقة ما زالت ترى في سوريا وإيران الخصمين الرئيسيين للعرب والمسلمين فيما تزهق الآلاف من المسلمين في بورما، حسب قريبين من دمشق، ولا تحرك هذه الدول ساكناً، وفيما يتعرض المسجد الأقصى منذ بداية شهر رمضان لأبشع الانتهاكات على يد الإسرائيليين الذين دعا بعضهم إلى هدمه، واكتفى النظام الرسمي العربي ببيان خجول صدر عن "قسم فلسطين" في جامعة الدول العربية، وليس عن أمانتها العامة؟  

السابق
استراتيجية السلاح
التالي
التحالفات النيابية