تعلّموا من أميركا وإن منحازة أو عدوة أو كافرة!

تعرفت إلى الدكتور عودة ابو ردينة الاميركي من اصل عربي (فلسطيني) المتخصص في شؤون الشرق الأوسط والخبير في مجالات الاقتصاد والمصارف والنفط والمساهمات وتقديم المشورة السياسية، تعرفت اليه في مناسبة حزينة في بيروت ودار بيننا حديث طال بعض الشيء كشف لي عمق اطلاعه على احداث المنطقة ماضياً وحاضراً، وعزز له اقتناعه بفهمي العميق لاميركا، فاتفقنا على التواصل. وقبل يومين وصلتني منه رسالة اكترونية (Email) نشرتها له "ايلاف" و"الديبلوماسي" اللندنية. وبعد قراءتها رأيت ان من واجبي نشر معظمها في زاوية "الموقف هذا النهار" لأنها تتحدث عن أخلاق تصرف الحكام والشعوب المنتصرين، وخصوصاً بعد حروب اهلية، وهو ما لم نشهده ماضياً وحاضراً وقد لا نشهده مستقبلا، ولأن المستقبل الدامي للمنطقة يجب ان يدفع شعوبها وانظمتها والحكام الى الوعي، والى استلهام تجارب انسانية اخلاقية ناجحة وإن قام بها اعداء او منحازون للأعداء مثل اميركا، هذا اذا كنا قوميين عرب، أو وإن قام بها "كفار" إن كنا اسلاميين مثل "القاعدة" و"الطالبان".
ماذا قال الدكتور ابو ردينة؟

قال الآتي:

"من بداية هذه السنة، اجتاحت اقطار عربية عدة اضطرابات قاربت الحروب الاهلية، رغم النيات السلمية لكثيرين من الذين احتجوا في الشارع مطالبين بالاصلاح او باسقاط الانظمة القائمة. والمؤسف ان الحروب الاهلية العربية، حتى في البلدان التي تبدو مستقرة ظاهراً، تعتمل في الباطن كالجمر تحت الرماد في وضع من "السلام الخادع". وبإلقاء نظرة على الحرب الاهلية الاميركية التي جرت في عهد الرئيس ابراهام لينكولن (1861 – 1865) بين الشمال الاتحادي والجنوب الانفصالي، والتي تميزت بقدر غير مسبوق من الوحشية والهمجية في العالم المعاصر، يتبين للناظر ان وقف الاقتتال والعنف لا يكفي لتحقيق السلام، طالما ان تربة الحرب الاهلية بقيت مهيأة وبذرتها قابلة للنمو.

تسبَّبت الحرب الاهلية الاميركية الدامية والمدمرة بمقتل 640,000 مواطن اميركي. وقد كتب احدهم عنها: "لم يعد الآن كافياً ان توقع بالعدو وترميه بالرصاص. تحدوك الدوافع الدفينة الى إذلاله، واحياناً الى سلخ جلدة رأسه. حتى هذا لا يعود كافياً. تجدُك تعري القتلى من ملابسهم وتخصيهم وتقطع اعضاءهم التناسلية. ومع مرور الوقت واستمرار النزاع، حتى هذا لا يعود كافياً. بعدها تقتلهم وتقطع رؤوسهم وتعلّقها على الأعمدة. وهذا ايضاً لا يعود كافياً. تقوم تالياً بقطع آذانهم، وتشويه وجوههم، وبقر بطونهم. وليس امراً نادراً في "الحضارة" العالمية ان يقوم جانب او آخر، او الجانبان المتنازعان كلاهما، بالتعذيب والتشويه والتمثيل بالجثث، فضلاً عن الشنق المتكرر للضحايا".

في نيسان 1865 قَبِلَ الجنرال لي قائد قوات الجنوب الانفصالي الاستسلام بشروط الجنرال غرانت قائد قوات الشمال الاتحادي المنتصر. وشكلت شروطه افتراقاً تاريخياً عما كان دارجاً في الحروب القديمة مثل سفك الدماء على سبيل العقاب والانتقام. قضت شروط الاستسلام بأن يعود افراد الجيش المهزوم الى بلداتهم وبيوتهم ومعهم خيولهم وامتعتهم. وأكدت السلطات الاميركية لقادة وجنود الجيش الجنوبي المهزوم أن حكومة الولايات المتحدة لن تزعجهم او تضايقهم، طالما التزموا شروط العفو وقوانينه.

والحقيقة ان احداً من الجنود المهزومين لم يُعلَّق او يُشنق كما كان يجري في حروب اخرى. بل أُدِّيَتْ لهم التحية العسكرية، وسُرِّحوا مكرمين معززين، فلم يتعرض واحد منهم للإذلال، او الإهانة، او الضرب، وتم توديعهم بالعناق والبكاء.

ان هذا السلام الكريم والسخي الذي اراده الرئيس لينكولن، وهو الذي امر بشن تلك الحرب الطاحنة ضد الانفصال الجنوبي، توخى من خلاله قيام اميركا جديدة موحدة ومتنوعة وديموقراطية. وذلك لا يتم بالانتقام بل بالمكارم والتطلع الى الامام. أراد لينكولن إشعار اهل الجنوب أنهم مواطنون كاملو الحقوق، من اجل دمج الجنوب بالاتحاد، والوصول الى امة قوية عبر اميركا اكثر اتحاداً وأعمق.

والعبرة هنا ليست في امتشاق السلاح او الدوافع الى حمل السلاح، بل في إلقاء السلاح ومعرفة الأسباب الموجبة لذلك. وللمراقب العربي الذي يشاهد الحرب الأهلية في اليمن وفي ليبيا وفي غيرهما من الاقطار العربية ان يسأل نفسه: هل يستطيع العالم العربي ان ينهي حروبه الأهلية من دون مزيد من القتل والعنف وعدم الاستقرار؟ وهل يتوافر له قادة مثل لينكولن"!
 

السابق
عندما تعرّى اليسار في لبنان
التالي
الشرق الأوسط: الأسد يعتبر حلب معركة مصير والبيت الأبيض يصف الأسد بالجبن