الإنجاز الليبي

أنتج الربيع العربي مزيجا هجينا من السلبيات والإيجابيات.
الإطاحة بأنظمة ديكتاتورية فاسدة لم تكن من دون أثمان غالية، فسوريا وحدها استنزفت دماء آلاف السوريين، ولا يزال الاحتفاء بانتصار الثورة فيها دونه عقبات كبرى، والثورات أيضا جلبت في بعض الحالات إلى السلطة أحزابا إسلامية لا يزال التزامها بالحريات وبالديمقراطية موضع شك كبير، وهو واقع أخاف الشرائح الشبابية الحديثة التي كانت شرارة وروح الربيع العربي.
لكن هل تشكل ليبيا استثناء؟

ليبيا كانت أول ثورة تتحول من سلمية إلى مسلحة، وأول ثورة تستجلب دعما عسكريا خارجيا، وأول ثورة تثمر عن موت الديكتاتور الذي ثارت ضده على النحو الفظيع الذي شهدناه حتى باتت الثورات والربيع العربي محل إدانة بسبب النموذج الليبي.

ليبيا هذه التي أخافتنا جميعا وكدنا أن ننساها خلال الأشهر الأخيرة حتى بالكاد بتنا نتابع أخبارها أو نسمع عنها في الإعلام العربي والعالمي عادت وفاجأتنا بالانتخابات التي جرت قبل أسابيع قليلة، والتي أثمرت فوزا لتحالف ليبرالي وطني وتراجعا للأحزاب الإسلامية.
ليبيا التي أخافتنا شكلت حكومة انتقالية، وأنجزت انتخابات حصلت على اعتراف دولي بديمقراطيتها، ووصل إلى مجلسها المنتخب تكتلات سياسية تتبنى الديمقراطية وفق النموذج الغربي لها.
ترى لماذا لم ننتبه إلى ما يجري في ليبيا؟ وهل كنا فعلا أسرى لتغطيات إعلامية مرتجلة للحدث الليبي فأسأنا تقدير الواقع هناك؟

وكأن ليبيا كانت جمهورية بعيدة خلال حكم معمر القذافي، ولا تزال كذلك حتى اليوم.
ما حدث في الانتخابات الليبية هو دعوة لنا كإعلام بالدرجة الأولى للتنبه وعدم الانجراف وراء تحليلات جاهزة فرضتها علينا قنوات إخبارية كبرى لا تتحرج من الترويج والدعم الإعلامي للإسلام السياسي في دول الثورات حتى يكاد يتبدى لنا أن تلك هي الصورة الحصرية والوحيدة في تلك الدول.
حين كنا نشاهد صورا من ليبيا فيها رجال معممون وأصحاب عصابات يحملون سلاحا ويتحدثون عبر الفضائيات، وحين فاضت مشاهد مقتلة الديكتاتور معمر القذافي اعتقدنا أن تلك هي ليبيا، فأشحنا بوجوهنا على عجل، وبخجل أيضا.

لكن مسؤولية الإعلام الغربي حيال إغفال الإنجاز الليبي لا تقل عن مسؤولية فضائياتنا الكبرى، ذاك أن فوز الإسلاميين في انتخابات وفي تشكيل حكومات هو خبر هذا الإعلام، أما اندراجنا في سياقات وطنية ومحلية وتقدم قيم المواطنة في همومنا وهواجسنا فهذا مما لا يغري الإعلام الغربي في التصدي له وفي تظهيره فينا.

بالنسبة إلى الغرب، نحن خبر حين يتقدم الملتحون والمنتقبات فينا.
ليبيا بعد أن كانت نموذجا لانتكاسة الربيع العربي هي اليوم نموذج للإنجاز، لكنها لا تقدم على هذا النحو، أو على الأقل تم تجاوز الإنجاز، فكم كان قويا ومرعبا مشهد الثوار يستأصلون القذافي على نحو انتهاكي، لكن مشهد الليبيين يقترعون لقوى معتدلة لم يظهر بالقوة نفسها.
قد يكون مستقبل ليبيا غامضا، لكن الانتخابات الأخيرة بداية جيدة.  

السابق
أميركا تدين جبن الأسد
التالي
تعرَّفوا إلى الحنكة الميقاتية