مرحلة ما بعد الأسد بدأت في حلب وجوارها

«ليست معركة سقوط حلب، بل سقوط النظام»، يقول عبدالله، أحد قادة «الجيش السوري الحر» صباح الثلثاء 24 تموز (يوليو) 2012. وحتى الليلة السابقة، بدا أن تجمُّع قوات هذا القائد (البالغ عددها حوالى 30 ثائراً) في الشارع العام مهمة عسيرة تليق بفرق المغاوير، أما اليوم، فالسيطرة على مناطق بأكملها من المدينة آلت الى كتائب «الجيش السوري الحر» المختلفة.
تنتشر حواجز الجيش الحر على بُعد 15 دقيقة من الوسط التاريخي، والمعارك تدور في باب الحديد، في المدينة القديمة. المنعطف هذا، أي سحب البساط من تحت أقدام جيش الرئيس بشار الأسد في ثاني أكبر مدينة سورية، يقلب موازين القوى رأساً على عقب، ويرجح كفة الثوار.

طوالَ مساء الاثنين وليله، توالت الحوادث توالياً ملتبساً وغامضاً، ولم يَسَع نازلي المدينة بلورة صورة عامة وشاملة عن الأوضاع منذ دخول الثوار إياها مساء السبت. ولكن، سرعان ما تبين ان تعزيزات السلاح التي أرسلها النظام لا وزن لها، ولن تفلح في تغيير الأمور، فالثوار أسقطوا مروحيتين، ودمروا دبابتين، وسقطت دبابة ثالثة في أيديهم واعتقلوا سائقها وركنوها امام مدرسة وسط المدينة، فيها مركز قيادة قسم من الثوار، حيث تقاطر سكان الحي كلهم لالتقاط الصور في قمرة قيادة الدبابة. وفي الليل، دمر مكمن 4 مركبات عسكرية من 14 مركبة أرسلها النظام الى المنطقة.

«في المساء أغمضنا عيوننا، وحين فتحناها صبيحة اليوم التالي، كان الجيش الحر منتشراً في كل مكان. نعم، هكذا انتشر، بين ليلة وضحاها»، يقول طالب جامعي الثلثاء الساعة التاسعة والنصف.
وفي الشوارع، تبدو علامات الفضول والقلق والحيرة على الوجوه، ولا يسع المرء الاحتفاء علناً بانتصار «الثورة» إلا في الأحياء المحررة، حيث يتجمع اشخاص في الشوارع ويهتفون «الله اكبر!»، ثم يقطع أصواتهم أزيز طلقات نارية، فيختبئ الناس في الاحياء المجاورة ويبدأون الاتصال هاتفياً بالجيران في شارع على بعد مئة متر فقط. ففي حلب لا يعرف المرء ما يجري في الجانب الآخر من الحي.
ولكن ماذا عن الوضع في دمشق؟ يجيبني أحد سكان حلب قائلاً: «هنا لا احد يعرف ما يجري في دمشق، فنحن منشغلون بتحرير أنفسنا، ثم تكر سبحة الأمور».

وعلى رغم أن النظام يبدو راسخاً في دمشق، يسود المنطقة الممتدة بين حلب وأعزاز شمال البلاد، يقينٌ بأن النظام سقط. ففي إحدى المزارع، يجلس رجال في دائرة تقطع كلماتٌ قليلة بين الفينة والأخرى صمتَهم، وشاحنات البطاطا تسير حاملة المحاصيل يخرق ضجيجها سكون المكان، ثم تسمع طلقة نارية، فيفاجأ الجمع، لأن القصف يبدأ عادة في الثامنة مساء، ويعلو صوت احدهم قائلاً: «انتهى أمر بشار». ولكن… لا احد يعرف حقاً متى تنتهي الأمور، ومن منهم سيبقى حياً، كما أن الإجابة عن هذه الاسئلة لا تشغل احداً.

فهذه المنطقة، وطولها نحو 60 كلم، وهي تصل سورية بتركيا، خرجت من قبضة السلطات وهيكليتها: المدارس والقطارات ومراكز البريد والإدارات خرجت عن سلطة نظام دمشق، وتوقفت عجلة السلطات المحلية عن الدوران، وغادر الموظفون الرسميون الى حلب او دمشق، وكان آخر المنسحبين من المنطقة رجال الشرطة، «لحظةَ مغادرتهم، أدركنا ان عقارب الساعة لن تعود الى وراء»، يقول احدهم.
وفي مدخل قرية أخترين، خَطَّ أحدُهم كلمة حرية بطلاء أبيض على تخشيبة: هنا واحد من مواقع «الجيش السوري الحر»، وعلى مقربة منه يتشارك خمسةُ شباب شُقْرِ الشعر، ثلاثَ قطع كلاشنيكوف اشتروها من تركيا إثر بيع الاهالي حلى ذهبية، وعند الحاجة يراكمون الحجارة والدشم لمنع تقدم الدبابات التي لم يظهر اثر لها منذ شهرين.

الوضع في هذه المنطقة يثير الدهشة، فهي كانت الى وقت قريب هادئة وفي منأى من الاضطرابات: ضعف ارتباط اليد العاملة الزراعية والتجار بالعاصمة.
وفي جبرين، يروي استاذ، ظروف اندلاع اول تظاهرة في البلدة قبل نحو سنة: خمسة رجال ملثمين يحمل أحدهم مصباح جَيْب تمركزوا في الحقل في الليل، وامتلكوا جرأة الصمود في موقعهم طوال 6 دقائق قبل ان ينسحبوا.

عند منتصف الليل، وقع خبر الحادثة وقع الصاعقة على القرية، وبدأ الناس يهتفون «الثورة وصلت». وكان السكان منقسمين في الرأي انقساماً كبيراً، وخشي كثر الضرب والتعذيب، فطلب أهالي جبرين من الرجال الخمسة الإحجام عن التظاهر. وفي الأسبوع اللاحق، ارتفع عدد المتظاهرين الى ثمانية، وبعضهم لجأ الى النوم في الحقول لتفادي القبض عليه، وأحدهم سلك طريق الهجرة الى لندن، وآخر اضطر الى غلق متجره. وبعد أشهر قليلة، ظهر المتظاهرون في القرية في وضح النهار، ولا يعرف أحد على أي شاكلة كانت الأمور لتنتهي لو لم تنهل الشرطة بالضرب على شخص يدخن، ولم تدفع بامرأة الى الأرض، وتطلق النار على الجمع.

كان أول الضحايا الذين فارقوا الحياة عاملَ بناء قضى في مسيرة في مارع، وهي بلدة مزدهرة، أما اليوم، فعدد الضحايا بلغ 28 قتيلاً، و50 قتيلاً في تل رفعت، و70 في عزار. دعانا خبير في المعلوماتية الى مشاهدة شريط مصور عن هذه الحوادث، في وقت بلغت الحرارة 50 درجة وطغت طغياناً ثقيلاً لا يحتمل، وتوقفت أجهزة المراوح عن العمل. فالكهرباء غير متوافرة طوال ساعات النهار، وإمدادات الوقود متوقفة. ويرى خبير المعلوماتية أن السلطات تعاقب المنطقة وتقتص منها، فهي بؤرة سنية. و «في البلدة هذه عدد صغير من العلويين، يحوز بعضهم مناصب رسمية رفيعة. جرت العادة أن يحظوا هم بالمناصب ونُحرَم منها»، يقول الخبير. وهرب العلويون إثر وصول مد الثورة الى هذه المنطقة.

وفي المدينة، ارتفع سعر صرف الدولار من 48 ليرة سورية الى 78 ليرة، وتضاعف سعر اللحوم ثلاث مرات، ما اضطر خبير التكنولوجيا الى بيع هاتفه الخليوي الجديد. هو يقدم لضيوفه مشروبات غازية، ويعرض على الشاشة صور جثة عامل البناء المليئة بالثقوب والمرمية في الشارع. «الناس انحازوا الى الثورة حين شاهدوا بأم العين ان الشرطة ترديهم ولو كان مرورهم في الشارع مصادفة وليس للاحتجاج»، يقول الخبير. حينها، بدأت كل بلدة تنظم صفوف ابنائها لحماية التظاهرات والملاحقين، وأَسَرَ الاهالي عدداً من شبيحة النظام وأشبعوهم ضرباً. وحين أرسلت السلطات تعزيزات عسكرية في أيار (مايو) الماضي، هوجمت ورُدَّت على أعقابها.
 

السابق
معارضون: حلب ستصبح تحت سيطرتنا خلال ايام
التالي
فضائح صغيرة.. كبيرة