ما بعد ما بعد حلب

لا الحسم العسكري ممكن، ولا التسوية السياسية ممكنة. سوريا إلى مزيد من التفكك، دولة وكياناً. مهما كانت قوة الجيش لا تستطع ان تعيد السلطة المركزية لبلد قرر جزء مهم من شعبه ان يقاوم بالسلاح هذه السلطة، ولديه دوافع غير عادية للصمود، ولديه الكثير من مصادر الدعم المادي والمعنوي. لا توجد الآن طريق نجاة أو عبور من العنف الشامل إلى التهدئة أو حتى الهدنة. هناك مسار تصاعدي متنقل للصدام المسلح في الداخل وتحريض متبادل لقوى الخارج الدولية التي جعلت من سوريا معركة فاصلة.

لا يجد الغرب نفسه محرجاً أو مأزوماً في محنة سوريا، ولا يجد حلفاء النظام أنفسهم قادرين على إيجاد تسوية في معركة تجري في المدى الحيوي الأساسي لمصالحهم الكبرى. أما المفارقة فهي ان الروس يعتمدون على قوة النظام العسكرية بينما الغرب يقف إلى جانب المعارضة المسلحة والبيئة المدنية والشعبية التي تتحرك فيها. لقد صارت حرية الشعب السوري مرهونة لتغيير إقليمي ودولي، ومستقبل سوريا بات مرهونا لتسوية لا مقومات لها الآن، وعلى حرب كبرى تتزايد احتمالاتها. فالغرب يجد في إسرائيل الاحتياط البعيد المدى الذي يعوضه الكثير من فراغ القوة الذي يحتاج إلى ملئه. واهم من يعتقد ان تدمير الأحياء والمدن وإجلاء المسلحين عنها كافٍ لإعادتها إلى سلطة الدولة. فقد صار مشهد اقتحام المدن والخروج منها ثم اقتحامها مجدداً يؤكد اتساع حجم المناطق الخارجة عن سلطة الدولة والولاء لها.

وخلافاً لكل توقيت أو تحديد لمواعيد ومعارك فاصلة على مدى الأزمة المفتوحة منذ سنة ونصف السنة، فليس لأي موقع أو مدينة هذا الأثر الحاسم في مواجهة بين قوات نظامية وقوات غير نظامية. فمن غير المنطقي أو الواقعي ان تحتفظ المعارضة المسلحة بمدن وتدافع عنها وتثبت فيها حين لا تملك القدرات العسكرية لذلك. فلا يقاس ميزان القوى على هذا النحو ولا تحسب النتائج وفق هذا الشكل. فلم يثبت بالمقابل ان محافظة واحدة تعيش في ظروف طبيعية في الإدارة والأمن والاستقرار. هذه الفوضى تعني ان القوة العسكرية ليست كافية وحدها لاستعادة وحدة الدولة وسلطة نظامها. ولعل الدولة نفسها تغامر في إطلاق حرية العمل المسلح للأكراد في شمالها في وجه تركيا وتتخلى عملياً عن سلطتها في ثلاث محافظات وتتوغل في اللعب على نسيج المجتمع السوري وتناقضاته الاثنية والدينية والطائفية. فإن دل هذا على شيء فهو يدل على تشعب الأزمة واتساع تداعياتها في المدى الإقليمي واحتمالات جذب قوى جديدة وعناصر لهذه الأزمة، من بينها الاحتياط اللبناني. القوى اللبنانية أكثر استعداداً من ذي قبل للتورط في ما تعتبره صياغة النظام الإقليمي وترتيب دوله وأنظمته وتوازناتها وحتى جغرافيتها. بل ان احتمالات دخول إسرائيل على المسرح بهذه الذريعة أو تلك يجعل الأطراف أكثر انشداداً إلى الحسابات الإقليمية من أي حسابات محلية.

يتصاعد القلق الوجودي لدى الجماعات الطائفية ويذهب الخيال السياسي في التوقعات أبعد من الاعتبارات السياسية العادية وشؤون الدولة الجامعة لاهتمامات اللبنانيين. فلا غرابة ان تكون أولويات القوى السياسية متجهة إلى ارتقاب نتائج المواجهات العسكرية والسياسية في سوريا وفي غير سوريا وإلى الاستنفار السياسي ومحاولة الاحتفاظ بكل عناصر الخلاف،وبالشعارات المتباعدة. جميع الفرقاء في الداخل والخارج يعرفون تماماً ان المواجهات في سوريا ستكون أبعد من حلب وما بعد حلب، وان ما تختزنه الأزمة من مضاعفات قد يذهب إلى مشاهد أكثر دموية وعنفاً ويستولد مشاريع وأوهاما عاش اللبنانيون في ظلها سنوات، وهي تحرضهم على رفض التسويات السياسية.
  

السابق
حفظ الشكاوى على الأسير
التالي
المعلم غير الحر