صُعود وسقوط امبراطورية المخابرات العربية

الحلقة الأولى: تعريف وتأريخ النظام الأمني في الوطن العربي.

– I –
في شهر شباط /فبراير 2007، وقع حدثان هامان: الأول، انعقاد القمة العربية في الرياض. والثاني، الذي جاء قبل أيام من القمة، كان اجتماع وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في القاهرة مع مديري أجهزة المخابرات (*) في كلٍ من الأردن ومصر والسعودية والامارات العربية المتحدة.
آنذاك، تساءل الكاتب إسنادر العمراني(1): أي هذين الحدثين كان الأكثر أهمية من حيث تأثيره على مضمون وشكل وتوجهات سياسات الدول العربية؟ وهل هذا كان تفاعلاً طبيعياً بين عوامل ثلاثة منفصلة: السياسة الخارجية الأميركية، وأنظمة الأمن العربية، والقيادات العربية؟ أم أن هذه العوامل الثلاثة تتقاطع في منحى وحيد، حيث السياسة الخارجية الأميركية تندمج مع السياسة الأمنية العربية؟
هذه الأسئلة تبدو غريبة للوهلة الأولى. إذ كيف يمكن للقاء بين وزيرة أميركية وقادة أجهزة أمنية أن يكون أكثر أهمية من قمة للملوك والرؤساء العرب؟
بيد أن أي مقاربة واقعية لطبيعة القوى التي تشكّل حالياً عِماد الأنظمة العربية الراهنة، أو على الأقل التي تلعب الدور الرئيس فيها، تُسلّط الضوء فوراً على الدور المُهيمن الذي باتت تلعبه الأجهزة الأمنية في معظم الأقطار العربية في شتى مجالات الحياة السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية والفكرية، علاوة بالطبع على الدور الأمني الداخلي والأمن القومي.
لقد درجت العادة حتى الآونة الأخيرة أن يتناول الباحثون العرب الأزمات السياسية العربية من منظور التحليلات العلمية الخاصة بمفاهيم الشرعية والمقبولية، وبالتالي الديموقراطية. وهذا أمر بديهي ومطلوب أكاديمياً، لكنه ينحو في غالب الأحيان إلى تناسي/ أو القفز فوق دراسة القوى أو الطبقات أو الأطراف التي تُمسك بالسلطة السياسية، والتي من دون التطرق إليها وإلى طبيعة دورها، يصبح أي حديث عن أسباب انحباس الإصلاح والتطور والتطوير الديموقراطيين في الوطن العربي لغزاً أو أحجية لا سبيل لفك طلاسمهما.
د. عبد الأله بلقزيز، الذي يتمتع بعمق الرؤى وباع في مجال تتبع مسارات الأنظمة السياسية العربية، نشر حديثاً دراسة بعنوان " أزمة الشرعية في النظام السياسي العربي"(2). هذه الدراسة ألمّت بمعظم جوانب مسألة الشرعية أو أزمتها لدى الأنظمة العربية. لكن، ثمة نقطتين شددت عليهما الدراسة قد تثيران بدورهما أسئلة في غاية الأهمية، هما دور الإديولوجيا في صناعة المقبولية أو الشرعية، والثانية، أزمة الشرعية التي ينتجها "الانسداد السياسي" الراهن، وفق تعبير بلقزيز، في المنطقة العربية.
____________
(*) سنتطبق في هذه الدراسة المصطلحات التي وضعها د. يزيد الضايع، حول استخدام تعبير "جهاز المخابرات" حين يكون هذا الجهاز غير عسكري، و"جهاز الاستخبارات" حين يكون تابعاً للجيش.
____________
أما الأسئلة فهي:
– من هي الطبقة أو الطبقات التي تمارس هذه الهيمنة الإديولوجية (وفق المفهوم الغرامشي)، والتي وفّرت للأنظمة أو معظمها في السابق ما أسمته الورقة "الشرعية النسبية".
– هل صحيح أن ثمة انسداداً سياسياً مُتفجّراً في الشرعيات الثلاث التقليدية والثورية و"الحديثة"، كما يقول الباحث، وإذا ما كان الأمر كذلك، كيف يمكن أن نفسّر حالة الاستقرار النسبي التي عاشتها معظم الأنظمة منذ أكثر من ثلاثة عقود على رغم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية العاصفة؟
– ثم: ما دور القوى الدولية المُهيمنة على المنطقة في توفير الدعم سابقاً للأنظمة السلطوبة الملكية والجمهورية على حد سواء، على رغم شعارات الإصلاح والديمقراطية التي كانت تطرحها هذه القوى؟
– وأخيراً، هل من سبيل للإصلاح الديمقراطي في المنطقة العربية، وبالتالي لانتصار ثورات الربيع العربي، مالم يتحقق أولاً إصلاح حقيقي لدور القطاع الأمني في المجتمعين السياسي والمدني؟

– II –
وردت الإشارة إلى السؤال الأول في أواخر بحث د. بلقزيز (صفحة 18)، حين أوضح أن "الاحتكار غير المسبوق- حدة وكثافة- للسلطة من قبل حزب أو فريق أو فرد في المنطقة، غالباً ما تكون سلطته واجهة مدنية للعسكر أو أجهزة الأمن".
هذه المسألة في حاجة إلى المزيد من التركيز والتوضيح والتوسّع، لأنه يبدو أن معظم مفاتيح السلطة في العقود الثلاث الأخيرة كانت بالفعل (ولاتزال؟) في عهدة أجهزة المخابرات العربية أو بقيادتها. وهذه الأخيرة ما انفكت منذ ذلك الحين تلعب دوراً يشبه دور النخب التوتاليتارية في أنظمة الحزب الواحد، وهو الدور الذي يستند إلى السيطرة السياسية على الدولة والجيش من قِبَل نظام حزبي سلطوي واحد. الجيش هنا يدين بالولاء للنخبة التوتاليتارية (إقرأ هنا أجهزة المخابرات) لأنها تضع موارد اقتصادية كبرى بتصرفه، فيما تكون السيطرة السياسية للشرطة السرية التي تتغلغل في الجيش وتدير عملية تعيين الضباط أو ترقيتهم أو عزلهم.
فضلاً عن ذلك، لم تكن الأجهزة الأمنية العربية تقصر نشاطاتها على الأمن أو السيطرة الأمنية، بل مدّت "هيمنتها" من المجتمع السياسي إلى المجتمع المدني: إلى الإعلام والثقافة، والسينما والمسرح، والنقابات والاقتصاد، وخلقت مابات يُسمى "ثقافة الأمن" في المجتمعات العربية.
وهنا نستذكر مقولة غرامشي بأن "أي طبقة ترغب في ممارسة السيطرة في ظل الظروف الحديثة، عليها أن تتحرّك إلى ما هو أبعد من مصالحها الاقتصادية الضيّقة لتمارس قيادة فكرية وأخلاقية، ولتبرم تحالفات وتسويات مع مختلف القوى لتشكّل الكتلة التاريخية".
هل يعني ذلك أن أجهزة المخابرات، بما تمتلكه من سلطة سياسية وسطوة اقتصادية وهيمنة ثقافية، أصبحت طبقة في ذاتها ولذاتها؟
هذا ما ستحاول هذه الدراسة الإجابة عليه، لكن مع التشديد بأن هدفها ليس تعزيز نظرية المؤامرة عبر "شيطنة" أجهزة الأمن أو تحميلها وحدها مسؤولية الانسداد السياسي العربي، بل مناقشة الخيارات والسياسات التي يمكن أن تصوّب عمل هذه الأجهزة ونشاطاتها. فالأمن في خاتمة المطاف ليس كلمة رديئة، خاصة حين يرتبط بمفهوم "الأمن الإنساني". وأجهزة الأمن العربية لايجب بالضرورة أن تبقى سرّية في عالم محظور يعج بالهمسات والظلال. لابل أكثر: الدور الوطني والقومي لهذه الأجهزة المُعزز بالأمن الإنساني مطلوب أكثر من أي وقت مضى، بسبب ظروف التفتيت والاحتلالات التي تتعرض إليها معظم إن لم يكن كل الأقطار العربية (نماذج العراق واليمن وفلسطين والسودان وسورية ولبنان وليبيا ، والعد مستمر)، شريطة أن يتم ذلك في إطار ثقافة أمن ديموقراطية- إنسانية جديدة.
تبقى ملاحظة أخيرة: هذه الدراسة، وبسبب اقتضابها المطلوب، لم تستطع الاستفاضة بالحديث عن دور أجهزة المخابرات في كل أو معظم الدول العربية، إذ أن ذلك كان سيتطلب سلسلة كتب لا كتيباً واحدا. ولذا، تم التركيز على الخطوط العامة لمسألة العلاقة بين الأمن وبين السياسة في الحياة السياسية العربية، مع اهتمام خاص بدور أجهزة الاستخبارات في مصر والأردن والسعودية، وبالعلاقات الخاصة بين معظم أجهزة الأمن العربية وبين الولايات المتحدة.
ستتطرق هذه الدراسة إلى:
أ‌- تعريف وتأريخ النظام الأمني في الوطن العربي.
ب‌- دور الجيش والتوسّع الانفجاري لأجهزة الأمن.
ت‌- هل أصبحت أجهزة الأمن "طبقة"؟
ث‌- دور أجهزة الأمن في إطار النظام الدولي الحالي.
ج‌- تجارب الإصلاح الأمني: نموذجا اندونيسيا وتشيلي.
ح‌- خلاصة.

– III –
أ‌- تعريف وتأريخ
قطاع الأمن في معظم البلدان العربية يتكوّن من مزيج من القوات المسلحة النظامية (حين تقوم بدور محلي داخلي)، والقوات شبه العسكرية على غرار الحرس الوطني أو الملكي أو الجمهوري، وحرس الحدود، وعدد من أجهزة المخابرات والأمن المتنافسة في ما بينها عادة، وقوات الشرطة، وشركات الأمن الخاصة المتوسعة، والهيئات القضائية الجنائية.
هذه الأجهزة يفترض أن تكون الأكثر ولاء والتي يُعتد بها لضمان أمن النظام السياسي. وبالتالي، فهم تركيبة هذه الأجهزة وسلسلة هيكليتها، والطريقة التي تُموّل بها، وكيفية تفاعلها مع بعضها البعض، ولمن ترفع تقاريرها، كل ذلك ضروري لتحديد طبيعة السلطة في بلد ما.(3).
الباحث فريديريك غرير(Fredric Grare ) يحدد دور الأجهزة في العالم الثالث عموماً كالآتي: " ممارسة السيطرة الاجتماعية؛ حماية النظام ضد كل مصادر الاضطراب، وتعزيز "المقبولية السلبية" للشعب لسياسات النظام بشتى الوسائل، بما في ذلك التخويف".(4).
وعموماً، تستند السلطة في دول العالم الثالث بشكل أساسي إلى ممارسة السيطرة(Control) وليس الهيمنة (Hegemony) كما في الدول الديموقراطية الناضحة، وذلك من خلال الاعتماد على أجهزة الأمن. وهذه ظاهرة عامة في هذه الدول.
على الصعيد التاريخي، كان الشرق الأوسط الإسلامي هو الذي اخترع مفهوم ضبط الأمن(Policing) . فأول قوات شرطة مدنية برزت في مصر وبلاد ما بين النهرين قبل آلاف السنين (5). بيد أن ضبط الأمن الحديث، بإشراف قوات مُحترفة ومُتخصصة ومُستقلة عن الجيش، لم تبدأ في الوطن العربي إلا مع مقدم حقبة الاستعمار الأوروبي في القرنين التاسع عشر والعشرين.
ففي ظل الدولة العثمانية، لم تكن ثمة أجهزة أمن مستقلة. وكانت وحدات الانكشارية تسيّر دوريات في الشوارع والاسواق وتستأجر المُخبرين المحليين للحفاظ على الأمن. وفي المقاطعات العربية، ماعدا مصر( التي طوّرت أجهزة شرطة للمدن)، كان الحكم العثماني حتى القرن التاسع عشر يستند بكثافة على الجند المعزولين في ثكن عسكرية، الذين لايقيمون سوى النذر اليسير من العلاقات مع المجتمعات. وهؤلاء كانوا يحافظون على الأمن من خلال التجسس، والحلفاء المحليين، وممارسة القوة بين الحين والآخر.
إلغاء الفرق الانكشارية في العام 1826 وتشكيل قوات مسلحة جديدة، حفز على إجراء إعادة تنظيم شاملة في أسلوب ضبط الأمن (Policing) في الامبراطورية العثمانية. ففي العام 1846، تم فصل وظائف أجهزة الأمن عن الجيش، وفي العام 1870، أنشئت وزارة شرطة جديدة. وفي أواخر القرن التاسع عشر، كانت أجهزة الأمن تعمل كقوة لاعسكرية منفصلة في اسطنبول، مُقلّدة بذلك التطورات المعاصرة في أوروبا في مجال ضبط الأمن. ومع ذلك، بقي دور الجيش في حفظ الأمن قوياً في المقاطعات العثمانية: التجسس ومواصلة توظيف المُخبرين للإمساك بالمجتمعات.
في المناطق العربية، برزت قوات الأمن المنفصلة للمرة الأولى في عهد الاستعمار الأوروبي. فبريطانيا وفرنسا طورتا أجهزة الأمن المحلية بالدرجة الأولى، لأن ذلك كان أقل تكلفة من استخدام الجيش للحفاظ على النظام. وقد حافظت هذه الأجهزة على بنية شبه عسكرية ثم على هدف سياسي حين سعى الحكام المستعمرون ثم الاستقلاليون ليس فقط إلى الحفاظ على الأمن العام بل أيضاً حماية نظام محدد.(6).
في ظل السلطات الاستعمارية وخلفائها، واصلت أجهزة الأمن الحصول على دعم التدخلات العسكرية النظامية الدورية، خاصة خلال عملها لاحتواء معارضة واسعة النطاق للنظام. وأجهزة الأمن التي برزت آنذاك، تم تنظيمها وفق النموذج الأوروبي: تحديد أجهزة أمن خاصة للمدن، ودَرَك للمناطق الأقل كثافة، والقوات العسكرية حين تفشل هذه الأجهزة في القيام بمهامها.
مع الاستقلال، حلّ ضباط وطنيون مكان الضباط الأجانب (على رغم أن المستشارين الأجانب غالباً ما بقوا في مناصبهم)، وتم الحفاظ على نموذج أجهزة الأمن كما كان في العهد الاستعماري، لكن مع فارق أن أمن الأنظمة وليس الوطن بات الشغل الشاغل الأكبر والأول للقادة السياسيين الجدد. وهذا مادفعهم في وقت مبكر إلى توسيع قطاع الأمن ليشمل أجهزة أمن متعددة، بعضها يرفع تقاريره إلى رئيس الدولة مباشرة، هذا علاوة على جهاز الإستخبارات العسكري.  

السابق
غصن: محاولات ضرب الجيش اليائسة والبائسة ستذهب هباء
التالي
الريس: إقفال كهرباء لبنان يضرب هيبة الدولة