العراق وسورية ومسألة اللاجئين والأخلاق

 تحليل بل توصيف سياسة الحكومة العراقية إزاء سورية – الحكومة، كما إزاء سورية – الشعب، يكاد ان يكون متعذراً. فهذه السياسة تجمع على نحو فريد نقائض نفيسة، يختلط فيها الجد بالهزل، والحقيقة بالخيال، والصدق بالزيف، والاحترازات الحصيفة بالتصنع الدعيّ.

أزمتنا، نحن العراقيين، مع سورية كانت، ولا تزال، أزمة مع الحكومة. فهي أخذت على عاتقها إجازة وتسويغ وتسهيل كل أنواع القتل في العراق، بخاصة الذبح على الهوية الطائفية، تحت لافتات شتى، وهي تعمل بالحمية ذاتها على تكرار النموذج مع السوريين المعترضين أنفسهم. وقد بلغ غضب الحكومة العراقية في الماضي مبلغاً وصل حد التهديد برفع شكوى إلى الأمم المتحدة، أو طرق أبواب محكمة العدل الدولية، في احتجاج مشروع على العنف الأصولي المصدّر إلينا بلا رسوم جمركية أو خلافها. ولولا توسط تركيا لحل الأزمة لكنا الآن لا نزال في قلبها. ثم انقلبت السياسة العراقية من السعي لدرء خطر الجار العاق، إلى التعاون الحميم معه، ثم انقلبت مرة أخرى إلى لعب دور الوسيط بين الحكم والمعارضة، مقروناً بفتح باب التعامل المالي والتجاري، ومكتملاً بكسر إجماع عربي نادر وملتبس، وأخيراً بإغلاق الحدود أمام سيل اللاجئين السوريين، الهاربين من جحيم حرب أهلية اكتوى العراقيون بها قبل غيرهم مديداً.
 

وكان العذر أقبح من الذنب. فتبرير إغلاق الحدود – قبل التراجع عن القرار – اكتسى مرة رداء شبح مالي: الافتقار إلى الموارد الكافية، في بلد يشفط فيه مسؤولون غفل كثيرون أكثر من سبعة بلايين دولار في رمشة عين، ومن موازنة سنة لا غير. ومرة ثانية يرتدي التبرير رداء أمنياً: الخوف على الوضع الأمني، في حين يعرف أكثر المطلعين بلادة وبلاهة أن اللاجئين مدنيون، وأنه ما من لاجئ يعبر الحدود إلى نقطة تفتيش رسمية بسلاح وعتاد، وأن مصير اللاجئ هو مخيم مسوّر، مغلق، ومحروس ومحمي. بل إن خروج اللاجئ منه يعني موتاً محتوماً في صحراء مترامية، جرداء، يابسة، لا تسكنها سوى الضواري.

وكان المرء في حاجة إلى أدوات تجميل خاصة لرسم شيء من حمرة الخجل على وجوه صلفة مجردة من الحياء.
 

هذا الموقف أغضب العراقيين، خصوصاً منهم حملة القلم. ثلة بل جمهرة واسعة من المثقفين العراقيين، بمن فيهم معجبون ببلادة وجوه الحكم، أبدوا، على نحو عفوي، الخجل من الموقف الرسمي بإغلاق الحدود. وتكاد مواقع الفايسبوك، والتويتر، واليوتوب، والصفحات الإلكترونية للجرائد تضج بالنقد الكاوي، وتعرب عن الاستعداد لفتح القلوب قبل البيوت للنازحين من جحيم «البعث» الدامي في دمشق.

أحد المواقع التي تشكلت على عجل في الفضاء الإلكتروني يحمل عنواناً موحياً «البيت بيتكم». بضربة حظ أو بغيرها، تغيّر الموقف الرسمي العراقي بعد هذه الحملة النبيلة، بقرار فتح مخيمين لاستقبال السوريين.
 

لم تكن الحملة مفاجئة، لكن المفاجئ حقاً هو سعتها، وعنفوانها. والشام، كما هو الاسم الجامع المانع لسورية كلها (أو للعاصمة دمشق) عند جلّ من كتبوا ليس مجرد جغرافيا، بل ذاكرة وجودية، حياة ملموسة، بشر ووجوه، لا أشياء هامدة.

في حرب الشعب ضد نظامه الواحدي، تطلع من ثنايا العدم، أسماء قرى، وبلدات، وأرياف، تغدو خبزنا اليومي، من مصراتة، إلى إدلب. باتساع الحرب إلى المدن الكبرى، استفزت ذاكرة العراقيين الذين أمضوا سنوات في كنف السوريين، عامة ومثقفين، يوم أطبقت رحى المستبد عليهم. اليوم تتساقط الحمم، لجيش سلطوي عجز عن تحرير أرضه، ويعجز عن مواصلة الاستبداد بأمور أمته… تتساقط على ضواحي دمشق: البرزة، الحجر الأسود، السبع بحرات، المزة، القابون، إلخ. مجدداً ليست هذه أسماء جغرافيا ميتة، نقاطاً على خريطة، مواضع غفل مجردة من أي معنى. هي، عند جميع العراقيين الذين يتذكرون بامتنان دفء دمشق وحلب، وجه الجار الدمشقي الباسم، وطمأنينة الحواري في الصالحية، ورقة التنزه في المالكي، ومساءات باب توما السخية، وانتظار السمك النهري في أسواق الميدان، آتياً من الفرات المبتلى بالعسف، وهي موئل تاريخ مديد، مرقد الشيخ خالد النقشبندي، أو ضريح صلاح الدين، والألوان المبرقشة في سوق الحميدية، ومصنوعات الفضة والذهب في جنبات المسجد الأموي، أو مرقد رأس الإمام الحسين، قرب مدخل هذا الصرح.

لكن الذاكرة أوسع من هذا كله. الصواريخ التي تنهال اليوم من الهليكوبترات، وتتساقط من المدافع الرسمية، إنما تنهال على ذاكرة العراقيين الذين لاذوا بدمشق لا «زلفى ولا ملقا» (بتعبير الجواهري الكبير) وهي بذلك اعتداء على أجسادهم قبل عقولهم.

أعلى المفكرون مبدأ «كرم الوفادة» للغريب، المنفي بسبب فكره، منذ قرنين ونصف قرن، حتى دخل هذا السخاء الإنساني مبدأ سامياً في المدونات القانونية، من مواثيق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إلى مواثيق جنيف، إجلالاً للإنسان نفسه كقيمة بذاتها. وإعلاء لمبدأ حرية الضمير، وحق الحياة. وقد مارس السوريون هذا المبدأ، برضا حكومتهم أو بعدمه، إزاء جيرانهم، عراقيين ولبنانيين وفلسطينيين. أما نحن فعلينا أن ننخس أصحاب القرار بمهماز التقريع والتشنيع كي نحضهم على إبداء مقدار من الاحترام للمبدأ السامي: كرم الوفادة للاجئين، خصوصاً أن كثرة من أصحاب القرار ما كان لها أن تنجو بجلدها لولا دمشق الشعب.

نعرف أن بين الحكام العرب الأقحاح من هم آخر الآتين إلى عتبة الحضارة، آخر المدركين للجوهر الإنساني في مبدأ كرم الوفادة، وهم غارقون في عالم كامل من الوحشية المنفلتة التي رأيناها في حرب ليبيا، وانتقالات اليمن، ونراها الآن في حواري دمشق ودروب حلب مجردة حتى من ورقة توت. كل هذا العسف من أجل بقاء حفنة على الكراسي. كل هذا الدم المراق من أجل أنفار. كم طناً من مساحيق الخجل نحتاج لستر صلف أصحاب قرار منغلقين وقباحتهم؟!

 

السابق
«سيد المقاومة»: قائد سياسي أم زعيم طائفي؟
التالي
ميقاتي مرجعية السلفيين؟!