رسالة من تحت الأنقاض!

في ظل العجز الدولي الفظيع عن فعل أي شيء تجاه الأزمة السورية، وهستيريا القتل التي يمارسها النظام بحق الشعب الأعزل، باتت دمشق، بملايينها العشرة، سكانها الأصليون والذين لجأوا إليها من المدن والمناطق المنكوبة، مدينة أسيرة للموت، مزنرة بالرعب من كل جنباتها.
ما لنا غيرك يا الله، لم يعد في هذه اللحظات مجرد شعار يطلقه السوريون تعبيراً عن وضع صعب يتوقعون حدوثه، بل بات تجسيداً لواقع مؤلم ومرعب حيث تنفلت آلة القتل من عقالها وتتحضر البلاد لأكثر الحالات سوءاً ما لم يحصل أمر مفاجئ.
طوق الموت بات يزنر دمشق وبخاصة أحياءها الفقيرة والشعبية حيث لجأ أغلب سكانها إلى مناطق الريف الجنوبي التي أترعت بالسكان وفاضت بهم وباتت هي الأخرى مؤهلة للانفجار في كل لحظة بفعل الضغط الذي تعيشه هذه المناطق.
هكذا أصبحت دمشق مدينة للموت الموعود وما تخبئه الأقدار، بحيث صار الموت متوقعاً في كل لحظة، وفي أحسن الأحوال مؤجلاً إلى حين، بما يشبه ضريبة يتوجب تسديدها نظراً للانتفاع بالجنسية السورية، أو ما يشبه ممراً إلزامياً للخلاص من جمهورية حافظ الأسد الكئيبة.
لا أحد يعرف كم عدد السوريين الذين سيموتون في ساحة الوغى، لكن كل السوريين يعرفون أنهم يعيشون تجربة الموت وقد ارتفع سقف توقعاتهم في طريقة الحصول عليه، من الموت عبر القنص وقذائف الدبابات والصواريخ وصولاً إلى الإبادة الجماعية بالأسلحة المحرمة.
في ظل هذه الحالة فإن من لم يمت جسدياً، سيكمل حياته في ظل وضعية مشوهة، ربما تسيطر على السيكيولوجبة السورية عقوداً طويلة. وربما تستغرق هذا الجيل الحالي بأكمله، ما يضمن تغيير الكثير من ثوابت الشخصية السورية التي تميزت بالتسامح والانفتاح .
لا يبدو الحديث السياسي اليوم مهماً، ولم يعد مؤثراً بدرجة أو أخرى، فعدا عن كون السوري قد أترع تنظيراً سياسياً، فقد اكتشف أن هذا العنصر ليس له أي فعالية، وهذا ما قد يؤثر على الكثير من القضايا السياسية خصوصاً تلك التي تحمل أبعاداً وجدانية "رومانسية" كالقومية والوطنية لصالح القضايا ما قبل سياسية التي يتم اللجوء إليها بكثافة في هذه المرحلة العصيبة بفعل الظروف الحالية، القبلية والمناطقية والطائفية والإثنية.
إن رائحة البارود والدم التي غطت على ما سواها من المشهد السوري، وكذا غريزة القتل والحقد الأسود الطالع من قرون غابرة، من المتوقع أن تسهم في تشكيل المزاج السوري أكثر من غيرها، وسواء استطاع النظام القضاء على الثورة بفعل قوة نيرانه ومساعدات حلفائه، أو لم يستطع، فإنه نجح في جعل سوريا بلداً لا يعرف السلام طريقاً لها، فقد شكلت الأيام الأخيرة فرزاً هائلاً بين مكونات الشعب وصنعت ذاكرة تبدو أقوى من غيرها وأكثر تأثيراً، جمهورية حافظ الأسد تنتهي وينتهي معها ميراث الخوف والقهر والذل، لكنها تسرق من السوريين، بالإضافة إلى ثرواتهم، آخر أيام هنائهم ووحدتهم.

() كتبت من حي التضامن الدمشقي أثناء تعرضه للقصف خلال الأيام الماضية.
  

السابق
لماذا لم تُضبَط حالة الأسير حتى الآن؟
التالي
الاحتجاجات الصيداوية تحاصر الأسير