سوريا فرصة الحريري الثالثة

للمرة الثالثة في غضون سبعة أعوام ونيف، تكون الفرصة والمبادرة سانحتين للفريق الحريري على الساحة اللبنانية، بمكوّناته السياسية المختلفة، الداخلية منها كما الإقليمية أو الدولية. المرة الأولى كانت بعد اغتيال رفيق الحريري مباشرة. جاءت تظاهرة 14 آذار 2005، لتكوِّن انطباعاً، صحيحاً أو تهويلياً على الناس، بأن كل لبنان ومعه كل العالمين العربي والغربي، مستنفر تحت شعار تلك المناسبة: الولاء للبنان، الوفاء لرفيق الحريري. في لحظات تكرس الفريق الأزرق «الجامع»، وفق المفهوم الأوروبي، زعيماً للبنان بلا منازع. كانت ثمة قضايا لبنانية جوهرية لا تزال عالقة في البلاد، بعد جلاء الجيش السوري، أو نتيجة ذلك الجلاء المفاجئ والمتسارع. كانت هناك أزمة بين الجماعات والنظام، عمرها من عمر الطائف. وكان هناك ملف دقيق خطير وحسّاس اسمه سلاح المقاومة. وكان الملفان متشابكين في تقاطعات معروفة. فالنظام «الطائفي» لم يلتزم معايير ميثاقية واضحة. والشيعة، كما جنبلاط وبعض المسيحيين ورفيق الحريري نفسه، كانوا طيلة 15 عاماً قد عوّضوا عن تهميشهم نظاماً بالعضلات السورية ممارسة وواقعاً. ولم تكن «المقاومة» منقطعة بالكامل عن هذا التداخل. وبين كل ذلك كانت أزمة قانون الانتخابات وإعادة بناء الدولة بعد «تحريرها». فجأة، تخطى الفريق الحريري كل ذلك. باقتراح من عبقري ما في الداخل أو الخارج، اختزلت تلك اللحظة التاريخية بمعادلة تبسيطية مسطّحة: المهم أن نحكم البلد. ولنحكمه يجب أن نحكم سوريا. لذلك علينا تحييد حزب الله الآن حتى نسقط بشار الأسد. بعدها يكون سقوط الشيعة تلقائياً ومن دون أي جهد أو ثمن. ومن هذا الاقتراح ولد التحالف الرباعي. شيراك أقنع خاتمي. فمشى الباقون وأجهضت «ثورة الاستقلال». لا حوار جدياً ــــ كان ممكناً في تلك اللحظة وحدها ــــ لا حول السلاح ولا حول النظام ولا حول الماضي ولا الآتي. مجرد لعبة سلطوية، مغلّفة بلغة مزدوجة حتى الانكشاف، بين الضاحية وواشنطن.
بعد أشهر تبدلت عناصر أساسية في المشهد الخارجي، فسقطت الفرصة الحريرية في الداخل، وعاد البلد ليدور في أجرام الحسابات الخارجية، وبدا أنه خرج من الوصاية ليدخل في متاهة الفوضى.
بعد سنة وبضعة أشهر أطلت الفرصة الحريرية الثانية. ففي تموز من العام 2006، ولأسباب معقدة ومركّبة، قررت اسرائيل تحويل «حادث حدود» بمفهوم القانون الدولي، إلى «إعلان حرب». وهكذا كان. منذ اليوم الأول بدا أن قراراً كبيراً ينفّذ على الساحة اللبنانية، بالحديد والدم والنار. ومنذ تلك اللحظة بدا أن الخيارات إزاء ذلك القرار والحرب المنبثقة منه لا تحتمل أي مواقف رمادية. إما مع «الحزب» ظالماً أو مظلوماً، وإما مع اسرائيل ظالمة هي أو … ظالمة. في تلك اللحظة عادت المبادرة إلى الجانب الحريري. وكانت ممكنة متاحة لا بل سهلة. تماماً كما كانت سنة 2005. كان كل المطلوب الذهاب مرة جديدة، وبطرح جدي وطني شامل متكامل، نحو حزب الله وسلاحه وبيئته وأهله. وهو ما وصف يومها بإمكان تكريس «الطائف الشيعي». فجأة، ومرة ثانية، أطل اقتراح عبقري ما: هناك من فكر أنها الفرصة للتخلص من حسن نصر الله ومن ميشال عون ضربة واحدة. إذا كان عون سنة 2005 قد لملم أيتام رستم غزالة لمواجهتنا، فبعد حرب تموز لن يجد أيتاماً لحزب الله ليلمَّهم… بعد 33 يوماً سقط الرهان ثانية، وطارت الفرصة الثانية، وبتطييرها دخلنا أزمة أكبر، بلغت حد 7 أيار.
اليوم يعتقد الحريريون أنهم أمام فرصة ثالثة. في وجوههم وبسماتهم وشماتة البعض واستقواء البعض الآخر وعنتريات من كان طيلة عقود تحت الأعتاب… في كل ذلك شيء من رهان ثالث: بشار الأسد ساقط حتماً، بعده ستكون حفلة تنظيف كبرى في البلد، من حزب الله إلى عون إلى كل ملحقاتهما. وفي هذه الأثناء كل ما يلزمنا هو الانتظار والتفرج. لا لزوم لأي خطوة أو حركة أو مبادرة أو حتى حوار. نقاطع بعبدا، نسكت في موضوع السلاح وكأنه لا يعنينا وليس مشكلتنا، نمتنع عن اقتراح ولو مسودة لقانون الانتخاب، حتى تتغير سوريا، بعدها نقطف ونحصد مجاناً كل شيء.
لكن ماذا لو لم يسقط بشار؟ ماذا لو أن الأمور طالت أكثر من قدرتهم أو قدرة البلد على الاحتمال؟ أو ماذا لو تطورت أوضاع سوريا نحو خيارات أكثر راديكالية، من تغيير حدود أو فتح خطوط تماس أو تداخل في الجبهتين، من سوريا إلى لبنان وبالعكس؟ ماذا لو صارت لحظة سقوط النظام في دمشق هي لحظة بداية المعركة لا نهايتها، تماماً على طريقة بغداد 2003؟ وماذا لو اندمجت معسكرات الحروب السورية المتشظية، من دمشق إلى الساحل السوري، عبر أكثر من منطقة لبنانية؟
الآن يُتخذ قرار حريري بوقف الحوار؟؟ إنها عبقرية ثالثة بعد 14 آذار 2005 و12 تموز 2006، سيسجلها التاريخ على أنها الفرصة الثالثة الضائعة.  

السابق
هذا هو سرُّ لبنان
التالي
ماذا بقي أمام بشّار الأسد يفعله؟