حتمية تاريخية

انتصرت ثورة مصر العصرية، وبدأت عملية دولة مصر الحديثة، التي قد تستغرق وقتا طويلا، قبل أن تتخلص من جثث النظام الفارغ من أي محتوى ومن أي شرعية، ومن رمم المعارضة الفارغة من أي مضمون ومن أي مصداقية، وتثبت أقدامها في المؤسسات البديلة التي تحاول إنتاجها من نقطة الصفر تقريبا، وبناءً فقط على الكثير من النيات والأفكار الحسنة والحيوية، التي تعتمد على معايير فكرية وسياسية عالمية معاصرة لا لبس فيها.

سنوات طويلة يمكن أن تمر قبل أن تنضج التجربة المصرية البهية، ويمكن أن يتخللها الكثير من الثورات المضادة والخيبات المواكبة. لكنها ستظل علامة فارقة في التاريخ الإنساني الحديث، ومنارة مضيئة للعالمين العربي والإسلامي، اللذين شرعا على الفور في تلقي أشعتها، فتخلى رئيس اليمن علي عبد الله صالح عن طموحه بالتمديد أو التوريث، وألغى رئيس الجزائر عبد العزيز بوتفليقة الأحكام العرفية، وقدم ملك الأردن عبد الله الثاني قربانا حكوميا وأبدى استعداده لقربان نيابي، وقرر رئيس وزراء العراق نوري المالكي أن تكون رئاسة الحكومة لولايتين فقط.

كانت تلك من بعض المؤثرات الأولية لثورة مصر التي لم تكن قد بلورت خططها، والتي توحي قياداتها الشابة وأفكارها التجريبية وممارساتها العفوية بأنها ما زالت في بداية طريق طويل، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الشعب المصري ماض نحو حقبة طويلة من الانشغال بإعادة ترتيب أموره الداخلية، واختيار الشكل الأنسب لدولته ودستوره ومؤسساته، ما يستدعي حتما تأجيل البحث في أولويات سياسته الخارجية.. التي لا تنبئ لغة الشارع وهتافاته وشعاراته بأنها ستظل على ما كانته في العقود الخمسة الماضية.

مثل هذا الانكفاء المصري الى الداخل وتحدياته وخياراته، سيكون بلا أدنى شك عنوانا عربيا وإسلاميا عاما للمرحلة المقبلة: الحكام العرب الذين قلدوا النظام المصري وتراجعوا أمام غضب شعوبهم واستيائها من أسلوب إدارتهم المافياوية، سيجدون أنفسهم أنهم في حالة انطواء على الذات وعلى أوضاع داخلية لا تقل سوءا وخطرا عن الاوضاع التي أطاحت النظام المصري. ولن تكون سياستهم الخارجية، مهما كانت تتسم بالدهاء، كافية لضمان بقائهم بمنأى عن تلك الموجة الشعبية العاتية، والمنادية بالتغيير الفوري، الذي يستدعي المزيد من التواضع والتخلي عن أحلام تنتمي الى أواسط القرن الماضي.

ما صدر عن مصر حتى الآن، هو بمثابة نداء قومي الى الأمة وزعمائها وشعوبها، بأن وقت العروبة التقليدية والقضية العربية المركزية والمشروع العربي بشكله السابق قد نفد، وظهرت عروبة جديدة قوامها الحاجة اولا الى بناء دول وطنية مستقرة ومزدهرة، تلتزم بأيديولوجيات العصر، تستطيع في مراحل لاحقة أن تؤسس لطموح عربي جديد، محوره تلك الدولة المصرية التي يشهد العالم كله مخاضها الصعب.
كالعادة أمام الأحداث العالمية الكبرى، كانت ردود الفعل اللبنانية تتميز بطرافة لا حدود لها. وهكذا اندرج الحدث المصري التاريخي في سياق الصراع بين فريقي الثامن والرابع عشر من آذار، وكانت الغلبة، حسب المقياس اللبناني الفريد، للفريق الاول بلا أي جدال وبلا أي تقدير للحتمية التاريخية الجديدة التي ترسخها ثورة مصر الحديثة.
  

السابق
موظفون مقنّعون
التالي
أغطية برتقالية فوق آليات الاحتلال