المقامات الدينية في صيدا بين الإهمال والانقسام السياسي

ينتشر في مدينة صيدا عدد من المقامات الدينية، بعضها تهدم كمقام الشيخ قاسم الذي كان قائماً قرب القلعة البرية ومقام السعيد في شارع الشهداء. وبعضها ما زال قائماً لكنه معرَّض للإهمال وعدم الاكتراث.
من الناحية القاونية، تشرف دائرة الأوقاف الاسلامية على المقامات الموجودة وتعود ملكيتها للأوقاف نفسها.
حالياً، يوجد تسعة مقامات هي: مقام الزويتيني، مقام النبي يحيى، مقام النبي صيدون، مقام النبي داود، مقام "أبو روح"، مقام شرحبيل بن حسنة، مقام الست نفيسة، مقام الشيخ محمد أبو نخلة، مقام الشيخ عمر الجلالي.

دائرة الأوقاف الإسلامية
لدى مراجعة دائرة الأوقاف الاسلامية، تبين أنه لا يوجد مسؤولٌ محدد عن هذه المقامات ولا يوجد سجل لمتابعة اوضاعها. يختصر الشيخ نزيه النقوزي الموضوع بقوله "نحن نبادر إلى ترميم وتأهيل المقام اذا تبين أنه بحاجة إلى ذلك، ونحميه اذا تعرض لسوء وبناء على شكوى تقدم إلينا".
ولدى سؤاله عن سجل المقامات أحالنا إلى كتاب الدكتور عبد الرحمن حجازي الذي يتحدث فيه عن المقامات كمعالم إسلامية.

مؤرخ تاريخي
يقول المؤرخ الدكتور طلال المجذوب :"ليس بالضرورة أن تحوي المقامات الموجودة الأضرحة الحقيقية التي أطلقت أسماء المتوفين عليها، وربما بنيت هذه المقامات تحبباً أو للذكرى وتحولت عبر الموروث الشعبي إلى مكان ديني مقدس". ونفى الدكتور مجذوب أن أحداً يملك تاريخاً دقيقاً للمقامات الموجودة.

واقع المقامات
يبدو أن الإهمال وقلة الإكتراث هما القاسم المشترك بين المقامات الدينية، وخصوصاً خلال الفترة الماضية ويعزو الشيخ حسين حبلي ذلك إلى سبب رئيس لكنه ليس الوحيد، وهو نمو التيارات السلفية في المدينة التي تنظر إلى هذه المقامات كبدع يجب التخلص منها، وليس بصفتها جزءاً من تاريخ النسيج الاجتماعي للمدينة.
أولاً: مقام النبي يحيى:
الموروث الشعبي يشير إلى أن المقام يعود إلى النبي يحيى بن زكريا ولكن تاريخياً يتحدث بعض المصادر أن النبي يحيى دفن في فلسطين، والبعض يقول أنه مر بالمكان فأقيم له مقام للتبرك. والبعض الآخر يعتقد أن الضريح الموجود يعود إلى رجل صالح يدعى يحيى، ومن الكتابات الموجودة على الضريح يبدو أن باني المقام هو أحمد باشا الجزار ويقع المقام شرق مدينة صيدا. وحتى ستينات القرن الماضي كان يشكل مساحة حرة لأهالي صيدا لزيارته والتنزه وتناول الغداء في السهول المحيطة به آنذاك. اليوم نادراً ما يزوره أحد وهو معرض للإهمال.

ثانياً: مقام النبي داود: كسالفه يبدو أن الضريح الموجود يعود لأحد الصالحين، واكتساب الاسم ربما يعود تبركاً بالنبي داود أو أن المدفون يحمل نفس الاسم، وهذا المقام موجود في درب السيم جنوب شرق مدينة صيدا، زواره نادرون ومعرفة الناس بوجوده نادرة أيضاً.
ثالثاً: مقام أبو روح: يعتقد البعض أن هذا المقام يعود إلى الصحابي شعيب بن ذي الكلاع وقد دفن في نفس المكان الشيخ عبدالله الخراساني الذي سكن صيدا، وكان يتعاطى مهنة الطب وأطلق على مكان إقامته "أبا روح" نسبة إلى معالجته للعديد من الأشخاص وإنقاذ حياتهم. يقع المقام جنوبي مدينة صيدا وعلى شاطئ البحر، وكان مهملاً حتى السنوات الأخيرة،وقد تقدم أحد المواطنين" تيسير الأرناؤوط" من دائرة الأوقاف بطلب إذن للإشراف على المقام وإجراء الترميمات اللازمة. وبعد نيله الإذن، رمم المقام وأعيد تأهيله، وتستخدمه حالياً محموعة من أتباع الطريقة النقشبندية وتقضي فيه أوقاتاً طويلة في الصلاة وقراءة القرآن، وتهتم المجموعة بالحديقة الخلفية المحيطة بالمقام، ويوجد عند مدخله ضريح يعتقد أنه للخراساني.
رابعاً: مقام شرحبيل بن حسنة: بني المقام على تلة تشرف على مدينة صيدا من الجهة الشمالية الشرقية، وتبلغ مساحة المقام 7943 م2 وأقيمت على أرضه "دار السلام" وهي تهتم بالمسنين والمسنات وتشرف على الدار جمعية جامع البحر الخيرية التي بنت الدار بناء على عقد استثمار بينها وبين دائرة الأوقاف الإسلامية.
وفي حين تقول الرواية أن الصحابي شرحبيل بن حسنة قد دفن في هذا المكان بعد قدومه إلى لبنان خلال الفتح الإسلامي، لكن د.المجذوب يشير إلى أن ضريح بن حسنة موجود في الأردن، وأن المقام الموجود في صيدا هو للتبرك بسبب مرور بن حسنة بالمكان وإقامته فيه خلال وجود الجيش الإسلامي. واليوم يطلق اسمه شرحبيل بن حسنة على المنطقة السكنية القريبة من المكان. وأن العامة تهتم بزيارة دار السلام أكثر من الاهتمام بزيارة المقام الذي يجهل العديد مكانه بالتحديد.
خامساً: مقام أبي نخلة: يقع المقام في البلد القديمة، ويعتقد معظم أهالي صيدا أن صاحب المقام هو محمد أبو نخلة ابن الإمام علي بن أبي طالب. لكنه ورد في الجزء الخامس من طبقات ابن سعد أن محمد أبو نخلة دفن في البقيع عام 81هـ.
ورد في سجلات المحمكمة الشرعية أن عبدي آغا الحلبي أوقف "اثني عشر قرشاً كل سنة ليصرف لصالح مقام سيدنا وأستاذنا الشيخ محمد أبو نخلة الكائن في زاوية العبيدية من زيت وقناديل وشمع وحصر". كما أوقفت سيدة مغربية اسمها آمنة أبو جيدة دارها في حي الفواخرة على زاوية الشيخ محمد أبو نخلة. ويستدل من ذلك أن الشيخ أبو نخلة كان من العلماء الأجلاّء وأحد المشايخ الصوفية وقد دفن في الزاوية حيث كان يقيم فيها حلقات الذكر. والمقام ملاصق للمسجد الذي يحمل اسمه ولزيارته علينا المرور بالمسجد المذكور.
سادساً: مقام اشيخ الجلالي: يقع هذا المقام في حارة البحر داخل صيدا القديمة، وهو عبارة عن غرفة صغيرة مهملة ينسب المقام إلى الشيخ عمر الجلالي والكنية للدلالة على تقواه وورعه، وهو ينتمي إلى عائلة بديع وكان يعمل بحاراً وكان صوفياً، وأوصى أن يدفن في نفس مكان إقامته لحلقات الذكر. معظم الناس يجهل مكانه بمن فيهم موظفو دائرة الأوقاف.
 

سابعاً: مقام السيدة نفيسة: حتى الآن لا يعرف بالتحديد من هي السيدة نفيسة والتي يقع مقامها على شارع رئيس قرب وسط المدينة. وهذه ميزة تفرض الاهتمام بالمقام وابقائه نظيفاً بشكل دائم. تقول الرواية الدينية أنها سيدة مغربية ثرية تعود في نسبها إلى
آل البيت من الفرع الحسيني، أقامت في المدينة وأوصت أن تدفن في ضريح بَنَتْه بنفسها في المحلة التي تعرف اليوم باسمها. ويقول د. المجذوب أن السيدة المدفونة هي مدبرة منزل مغربية كانت تعمل لدى آل حمود، وهي مؤمنة تقية وجرى دفنها في بستان حمود. وكان مقامها يحوي الضريح وقبة مفتوحة. ولهذا المقام ذكريات كثيرة للصيداويين اذ كان بعض النسوة يعتقد أن زيارة مقامها واضاءة الشموع ورمي النقود تجلب العلاج للمصابات بالعقر.
ثامناً: مقام النبي صيدون: يقع المقام قريباً من ساحة الشهداء في مدينة صيدا وتختلف الروايات حول تاريخ المقام، البعض يقول أنه كان هيكلاً للإله الفينيقي صيدون، والبعض يقول أنه يعود لأحد أبناء يعقوب واسمه صيدون. ويقول اليهود أنه لأحد أنبيائهم ويدعى زيلون.
نحاول زيارة المقام، الذي تحيط به أرضاً واسعةً لكنها مليئة بالأشواك والأعشاب البرية، تدوس عليها، تخاف من وجود حيوانات زاحفة لأنها أرض لم يطأها إنسان منذ سنوات، تحول المقام إلى خربة. مقفل الباب، في شباكه الحديدي فتحات صغيرة تمنعك من تصوير داخله براحة. في الداخل نفايات متراكمة ولا شيء يدل على أنه مقام ديني.
يخبرنا أحد أصحاب المحلات القريبة: "أعمل هنا منذ خمسين عاماً، قبل عام 1967 كانت تأتي عائلات يهودية من صيدا وباقي المناطق اللبنانية لزيارة المقام وتقديم الهدايا والهبات للمشرفين عليه، كما أن عدداً من العائلات الإسلامية كانت تتبرع بمواد عينية للعائلة التي كانت تخدمه".
ويضيف: "بعد 1967 صار زواره نادرين وقل الاهتمام به. وعام 1982 تعرضت المنطقة لأضرار بفعل الاحتلال الإسرائيلي الذي ضغط على البلدية لترميمه. ولكن بعد الانسحاب الإسرائيلي لم يعد أحد يهتم به، وتحول إلى خراب كما تراه وتركته العائلة التي كانت تهتم به".
ويوضح الشيخ حسين حبلي موضوع المقام قائلاً: "هناك اشكالية حول ملكية المقام. رممته دائرة الأوقاف بعد عام 1982 ونظفت الأرض المحيطة بالمقام. وكانت العائلة التي تهتم بالمقام تزرع تلك الأرض، ولكن بين 1999 و2000 تدخلت السفارة البريطانية وطلبت منع العائلة من استخدام الأرض بناء على طلب اسرائيل واعتبار المقام والأرض هي ملك للطائفة اليهودية. يومها وافق المفتي السابق المرحوم محمد سليم جلال الدين على طلب السفارة القاضي بمنع العائلة من استثمار الأرض. وطلب مني التحري عن تاريخ المقام وملكيته. وقد راجعت الارشيف ووجدت وثيقة تعود إلى الفترة الزمنية 1928 – 1932، وهي موجهة من المجلس الملي اليهودي إلى مأمور أوقاف صيدا الاسلامية يشكو فيها سوء معاملة العائلة التي تخدم المقام لزوار المقام من اليهود. وهذا اقرار واعتراف أن ملكية المقام والقيم عليه هي الأوقاف الاسلامية وليس غيرها".
لكن هذا الاثبات لا يغير شيئاً من الاهمال الذي يلحق بالمقام شأنه شأن المقامات الأخرى.
من جهة أخرى يشير د. عبد الرحمن حجازي إلى غياب أي تاريخ للمقام ليدل على الزمن الذي شيد فيه "انما كان يوجد فوق الضريح ستائر عليها آيات قرآنية وكلمات عبرية". وفي دراسة لأحمد الحبال، يقول "كانت العائلات اليهودية تزور المقام في عيد الفطير وكانت تقضي نهاراً كاملاً أمام المقام".

تاسعاً: مقام الزويتيني: تقول الرواية الدينية أن المقام يعود إلى السيدة زينب بنت النبي يعقوب. والمقام عبارة عن غرفة مربعة تظللها شجرة زيتون ومن هنا اتخذ المقام اسمه.
لا يوجد دليل تاريخي لملكية المقام إلا أن الشيخ حسين حبلي يشير إلى أن "الاعتقاد اليوم بأن المقام يعود إلى وقف الانصار، وربما كان يتبع عقار المدفن المخصص للمسلمين الشيعة في مدينة صيدا.
والمقام مقفل بالسلاسل تملأه النفايات والقاذورات ولا أحد يهتم به. حاولنا تصويره من خلال فتحة الباب، وجدنا مجموعة سيدات تدخن النرجيلة. قالت احداهن: "منذ عشرين عاماً كنا، نساء الحي، نصلي في المقام ونقيم الموالد فيه، وفي ذكرى عاشوراء كنا نقرأ مجالس عزاء ولكن بعد فترة أقفل المقام. ومنذ سنتين جاء أحد المشايخ الشيعة، وعلَّق هنا، هذا مرضكم أنتم اللبنانيون تتنفسون طائفياً. وتستطرد: الحمدلله أني فلسطينية ونحن لا نفرق حتى بين المسلم والمسيحي، على كل حال كان هدف الشيخ ترميم المقام واستخدامه، فوجئنا بمجيء عراضة من المشايخ السنة وبعض الأشخاص الذي استولوا على المقام وطلبوا من الشيخ المغادرة وبعدها أقفل المقام. و إن أردت أن تعرف مزيداً من التفاصيل فإن مفتاح المقام مع أبو أكرم النقيب".
لكن النقيب يقول: "قمنا ببعض التصليحات بناء على طلب دائرة الأوقاف، وأعدنا المفتاح إلى الدائرة ولا نعلم شيئاً غير ذلك".
وفي دائرة الأوقاف، أكد الشيخ حبلي رواية السيدة الفلسطينية مستنكراً ما قام به بعض المشايخ آنذاك، متسائلاً ألم يكن من الأجدى ترميم المقام وتأهيله واستعماله من قِبل الشيخ يوسف خليل بدلاً من إقفاله وتركه للإهمال، وكل ذلك بسبب الانقسام السياسي في البلد؟ حقاً انها جريمة.
المقامات الاسلامية في المدينة إلى ضياع، ما بين تغييب الطرف المسؤول عنها، ونموالتيارات السلفية المعادية لها، ونكران قيمتها التاريخية، بصفتها إرثاً تقافياً يجب الاهتمام به ،كونه جزءاً من تاريخنا بكل إيجابياته وسلبياته. فهل من يهتم؟
 

السابق
تتسوّل.. لتتجمّل
التالي
إنتشار تكتيكي لعناصر التنظيم الناصري في صيدا