عنصريّة موبّاسان

كان، حقّاً، أمراً لافتاً لي، وليس مفاجئاً، بالطبع، ما كشفته الجامعية الباحثة والكاتبة الجزائرية الدكتورة سليمة لوكام، من ملامح فاقعة في بروزها للعنصريّة التي كان يُكنّها للعرب – وبدوره ومن موقعه الثقافي/ الأيديولوجي، واحدٌ من وزن مبدعي فرنسا الأشهر الكاتب الكبير "غي دو موبّاسان" فلقد كنت قد أنهيت، لتويّ قراءة المجموعة القصصية الرائعة فعلاً، والموسومة بـ"أسرى الغابة وقصص أخرى" (ترجمة أنطوان مسعود – عن بيت الحكمة – بيروت، ط.ثانية 1972)، لهذا الأديب الأوروبيّ الذي عُقدت له – وبحقّ – ريادة كتابة القصّة القصيرة في العالم، وإذْ بالمصادفة قد شاءت أن يتحاين صدور العدد 642 من مجلة "العربي" الكويتيّة (مايو/ أيار 2012). الذي تضمّن بحثاً قيِّماً للوكام عن موباسان، في الوقت عينه الذي أنهيتُ فيه قراءة المجموعة المذكورة، فإذا بي، وبعد قراءتي للبحث المذكور، أجدني وقد سمَّرتني، مطولاً، وقفة تأمليّة مديدة، أمام وجهين متناقضين لموبّاسان، تمام المناقضة: وجه إنسانيّ كبير، ووجه عنصري كبير، – بالمقابل وبالقوة نفسها. ففي "أسرى الغابة" يتجلّى الوجه الإنساني الكبير الواضح والناصع لموبّاسان في دفاعه المطلق عن قضية وطنية جوهرية كبرى وعادلة، هي قضية تحرير بلاده من الاحتلال الألماني، ويظهر ذلك وبالأدلة القاطعة من خلال جملة مواقف ثقافية له بثَّها – بعناية فائقة الدقّة – في ثنايا هذه المجموعة التي تظهره رمزياتها التي لا تضاهي في الأدب المقاوم للاستعمار، مناهضاً عنيداً وشرساً "للأعداء البروسسيّين" – وبحرفيّة وصفه هو لهم – الأمر الذي يولّد الاعتقاد المكين والراسخ لدى قارئها، أن هذه المناهضة الصريحة ما هي إلا موقف مبدئيّ لصاحبها الذي يُهاب بمثله، كمبدع راقٍ، أن يكون مناهضاً، وبالذروة ذاتها لكل أنواع العدوانيّات والاحتلالات في العالم كافة. لكن الوجه الآخر لموبّاسان الذي ظهَّرت صورته لوكام في بحثها الذي حملنا على هذه المقارنة، جاء عكس ذلك، بالمطلق. إذْ إنّ شخصيات "أسرى الغابة" مجتمعةً، لم يفُهْ أي منها بأية كلمة، ولو عابرة، تنمّ عن إهانة، ولو ضئيلة للمحتلّين، نجد صاحبها – ومن موقعه القومي – يلحق سيلاً من الإهانات التشنيعيّة بحقّ الجزائريين العرب، فضلاً عن تحفيزه بني قومه وتشريعه وتسويغه لاستعماريّتهم لهذا البلد العربي التي جعلت منه بلد المليون شهيد.

فتحت عنوان: "الجزائر في كتابات "جي دي موبّاسان" (الأرض والعِرق والدِّين)" تناولت لوكام ما وصَمَ به الجزائر والجزائريين، من خلال دراستها لعملين أدبيّين من أعمال "موبّاسان" ينتظمان – وبحسبها – "ضمن رؤية (أوروبية) تكاد تكون عامّة"، وهي ترسيخ كولونيّالية كرّستها فكرة نابليون الثالث الذي صرَّح: "إن الجزائر لا تحتاج إلى غُزاة بل تحتاج إلى معلِّمين"، وهذان العملان هما: "رحلة إلى الشمس" التي ضمَّنها موبّاسان تسجيلية تصوّراته الخاصة التي طبعت رحلته إلى الجزائر في العام 1881. وقصته القصيرة "حلّومة" الواردة في مجموعته القصصية: "المزلاج وحكايات أخرى سفيهة". ففي نص الرحلة نقع على وصفه للجزائريين بـ"هؤلاء البرابرة الغلاظ" و"بو عمامة وحفنة الثائرين معه، لم يكونوا ليُلحقوا تلك الهزائم بالجيش الفرنسي، ولا ليرتكبوا تلك الفظائع بحقّ المعمِّرين، لو كانت السلطة العسكرية (الفرنسية – المستعمرة) أكثر يقظةً واحتياطاً"… فـ"ما سبب قلة حيلة أسلحتنا المتطوّرة في مواجهة عصيّ العرب وبنادقهم العتيقة التي عفا عليها الزمن، في كل الأحوال يتفوّق هؤلاء العرب علينا (في أرضهم) ونحن نبذل قصارى جهدنا لمقاومتهم"، وتؤكّد لوكام: "إن حضور "موباسان" في خطاباته التقريرية التي يتبناها ويُفصح عنها، يؤكد انخراطه في النسق الكولونياليّ المتعالي ذي الرؤية الشمولية الجائرة التي سوّغت له أن يجرد العربيّ من كل ما له بالحضارة نسب صريح أو خفيّ"، إذْ هو يُصنّف العرب "حضاريّاً وإنسانياً وفكرياً، ضمن أُطُرٍ تُسوِّغ سلبَهم أرضهم وتلقينهم مبادئ الإنسانية"، بل هم في نظره "أقلّ شأناً"، بل أدنى مرتبة وقيمة من الكائنات الحيوانية والإنسانية "الأكثر توحشّاً" حتى. على أن خلاصة ما توصل إليه بحث لوكام، أن مواقف موباسان التي ناقشتها، هنا، أظهرته – وبالرغم من حياديّتها وموضوعيّتها العلميّتين اللافتتين علمياً – "أوروبياً صميماً وكولونياليّاً فرنسياً، ذا نزعة توسُّعية، ورؤية مركزية (أوروبية) متعالية، محكومة بشرعنة الاستيلاء على الأرض (الجزائرية) وتسويغاً لبسط السلطة على أهلها.

إزاء هذه النزعة اللاإنسانية، أوليست الصرخة "بئس العقل الاستعماري، وسُحقاً له" مشروعةً؟
 

السابق
كفاح عفيفي.. عاتبة، على من؟ ولماذا؟
التالي
واشنطن تتخذ موقفا مزدوجا من سوريا