امرأة من الذاكرة

ما زال اسمها يتردد بين الحين والآخر، وما زالت صورها تظهر في اللافتات، وما زالت أقوالها تتكرر في الأحاديث، على الرغم من أنها اعتزلت وقررت العودة إلى مجال عملها الأول، وتكرس حياتها وخبرتها للجيل الجديد من الشبان والشابات من أبناء بلدها، الذين نظروا إليها يوماً بإعجاب وانبهار، وتابعوا تعبيرات وجهها وحركات يديها وبعض أنحاء جسدها، وحفظوا الكثير من أقوالها التي لا تنسى.
صارت من الماضي البعيد في ذلك البلد الذي أدمن اختراع نجوم بسرعة قياسية وعلى إخماد بريقها بسرعة أيضاً. لم تعد تحتل سوى ذلك الموقع المتواضع الذي يحميها من غدر الزمان، بعدما ظلت لسنوات عديدة تزعم أنها تساهم في دوران عقارب الزمن في العالم كله. تجتر أمجادها المفترضة أمام طلابها وطالباتها الجامعيين، لكنها، وبعكس أسلافها، لا تتلقى دعوات كثيرة لإلقاء محاضرات مدفوعة الأجر، أو لإجراء مقابلات تلفزيونية أو إذاعية مثيرة، ولم تحصل على عروض جدية لكتابة تجربتها الأخيرة التي كانت فيها شريكاً ظاهراً في صنع التاريخ.. مع أنه سبق لها أن كتبت الكثير عن مذكراتها وسنوات شبابها وخبراتها في الكثير من الشعوب، عدا الشعب الذي تعاملت معه قبل أن تتقاعد، والذي لا يزال يذكرها جيداً ويحمّلها وحدها مسؤولية مآسيه كلها.
تقاعدت لكنها لم تقعد، نسي العالم كله أنها كانت أول سمراء ممشوقة تصل إلى القمة، وتطل منها لنظرة حادة، تدّعي القسوة لتخفي الدعة، وتمثل الحكمة لتخفي السطحية، وتلامس رئيسها الفظ بطريقة محرجة لتخفي مغامراتها العاطفية التي لم يسلم منها الكثير من نجوم الرياضة ذوي الأجساد القوية، وربما أيضاً لتداري عنوستها المتأخرة التي لا تزال تثير أكثر من علامة استفهام.. لا يتعلق بمستوى جمالها ولا بطبيعة شخصيتها، ولا حتى بأي من فصول ماضيها.
باتت جزءاً من الذاكرة، صورة معلقة في بعض الردهات المعتمة، يميزها أنها الأنثى الوحيدة بين مجموعة من الرجال الذين تعلو وجوههم الخالية من التعابير ابتسامة مصطنعة ألح عليها المصور. وباتت أفكارها وآراؤها جزءاً من التاريخ الذي لا يقرأ في بلادها، وتكتب فصوله كما تكتب صفحات الجرائد اليومية. وصارت تجربتها تختزل بلون بشرتها، أكثر مما تدرج في سياق محدد، مع اليمين الصاعد أو اليسار الهابط أو ما بينهما من ظواهر وتلاوين سياسية غريبة ينتجها ذلك المجتمع العجيب.
لم يعد اسمها جذاباً أو حتى متداولاً في أميركا، أو في أوروبا أو حتى في أفريقيا. لكنه لا يزال مدوياً في الشرق الأوسط الجديد الذي بشرت به يوماً، من بيروت. ولا يزال يستمطر اللعنة الشمالية حيناً، والتحدي والتصدي أحياناً. ولا يزال كثيرون يجادلون في مواقفها وآرائها ويخوضون المعركة معها شخصياً، ولا يزال المتظاهرون في عدد من العواصم العربية يرفعون صورها القبيحة ويتجاهلون صورة خليفتها الأقبح في الشكل وفي المضمون.
في تلك العواصم وحدها لا يزال يصعب الاعتراف أو حتى الانتباه إلى أن كوندليسا رايس هي وزيرة سابقة للخارجية الأميركية. 
 

السابق
وفاة السفير فؤاد الترك نتيجة جلطة دماغية
التالي
وطنيتنا وقت الأزمات