الإخوان في قيادة الحركة القومية العربية

هل الكيمياء الجديدة الناشئة بعد "الربيع العربي" عِبْر تلاشي التناقض بين التيار الديني والقومية العربية نتيجةُ قوةِ الثقافة السياسية العربية كقوة توحيدية فوق كل الأيديولوجيات أم نتيجةُ تحوُّلِ "الإخوان المسلمين" في السلطة إلى قوة عروبية؟

من كان يتصور أن الثورات العربية المندلعة في العالم العربي كموجٍ مدهشٍ سياسياً من تفاعل البركان الداخلي مع الجاهزية الغربية، من كان يتصور أن يبدو التاريخ الجديد للمنطقة وكأنه بلا مقدمات إلا المقدمات التي سنكتشفها- لأنه لا بد من مقدمات تراكمية- من خلال نتائج الأحداث أي من أواخرها.
يحصل ذلك "فقط" منذ عام وثمانية أشهر في العالم العربي… وما أوسع وما أعمق هذه الـ "فقط" حين تأتي معها ليس بانفجار التناقض الطبيعي بين طُغَم الإستبداد ونُخَب المجتمع فحسب، بل أيضا تأتي بذلك التآلف بين عناصرَ من مكوِّنات تاريخنا السياسي المعاصر كانت تبدو متناقضة.
بين هذه العناصر المتوالفة تلك المتعلقة بالعلاقة المفترض أنها كانت تناقضيةً بين التيار الديني الإسلامي وبين التيار القومي العربي، أو ما سُمِّي في أدبياتنا اعتباراً من الثلث الثاني من القرن العشرين: "العروبة" واشتقاقه الآخر:"العروبي". ولا أعرف حتى الآن كيف وُلِد هذا المصطلح للمرة الأولى لأنه جعل من صفة "عربي" الطبيعية مصطلحاً قاصراً… فلم يعد "يكفي" أن تكون "عربياً" بل يجب أن تُصبح "عروبيا".
ففي واحدةٍ من أكثر "كيميائياتِ" موجات الثورات العربية المتلاحقة ارتساماً، ذلك التلاشي او التضاؤل في العلاقة التناقضية بين التيارين، حتى ليبدو "الإخوان المسلمون"، وهم المستفيدون الرئيسيّون في المدى القصير وربما المتوسط من هذه الثورات بل الصانعون الرئيسيون المحليّون لهذه الثورات، كأنهم قادة الحركة القومية العربية الجديدة في ظل "عروبة" الربيع العربي مثل ما كانت "أوروبية" سقوط حائط برلين.
هل هذه الكيمياء الجديدة نتيجةُ قوة الثقافة السياسية العربية كقوة توحيدية أم أن الزمن تغيّر فتحول "الإخوان المسلمون" إلى قوة عروبية بحكم تمركزهم الرئيسي في الأقطار العربية ولاسيما في مصر مثلما تحوّلوا نحو الديموقراطية ولا زالوا يعاندون بصورةٍ أو بأخرى تحوّلَهم الى شكل من أشكال علمانية الدولة؟
أميل شخصياً الى الجواب الذي يتضمنه السؤال الأول… وهو قوة الثقافة السياسية العربية التي تفرض نفسها على كل التيارات الدينية والقومية والعلمانية في اليمين واليسار.
لقد تابعتُ بعض أدبيات زيارة الرئيس التونسي "العلماني" (حتى لو رفض هو نفسه هذا التوصيف مثلما يرفض رجب طيّب أردوغان وصفَه بـ "الإسلامي"! )… إلى مصر ولقاءه بالرئيس محمد مرسي. بدا بوضوح أن هناك في اللغة والمعاني والمواقف ما هو عروبي أكثر مما هو ديني إذا جاز التعبير. تأمّلوا أي لقاء بين المسؤولين الجدد في المملكة المغربية وفي تونس ومصر وليبيا حيث (ليبراليّوها دينيون حتى النخاع وهم يواجهون التيار الديني) واسمعوا كيف تطغى عناصر الثقافة السياسية العربية على أي اعتبار "معنوي" آخر.
هناك إطار عربي حقيقي من التقارب والمشاعر والثقافة السياسية رغم كل الحساسيات الكيانية والجهوية بما يجعل الواقع الكياني العربي مضطرا مثل السابق الى الأخذ بعين الإعتبار متطلِّبات هذه الثقافة السياسية حتى وهو في ذروة انشغاله بمشاكله المحلية.
إن ما يميِّز الثقافة السياسية العربية الحالية أنها تمر في مرحلة كاملة المشروعية من الإنصراف الى شؤونها المحلية أي الى متطلبات قضاياها الإقتصادية الضاغطة.
فهل هناك في العمق قضية أخطر على البلد العربي الأهم – مصر- غير الشأن الإقتصادي الإجتماعي الذي يبلغ مرتبة الحفاظ على البقاء؟! لكن حتى هذه "المصر" التي يعيش فيها عند خط الفقر أكثر من أربعين مليوناً وعشرون بالماية من الخمسة وثمانين مليونا من سكّانها تحت خط الفقر… هذه "المصر" تجد نفسها "سعيدة" بالثقافة السياسية العربية رغم كل أعبائها وهو أمرٌ لا يتناقض مع المرارات العميقة التي تستشعرها نخبُها حيال الاختلالات الفاضحة في توزيع الثروة العربية او حيال الإختلال الوطني الرئيسي التقليدي في هذه الثقافة، وهو الموضوع الفلسطيني، لا بل يمكن القول أن هذه المرارات هي إحدى نتائج هذه الثقافة.
وبمعزل عن مصير التيارات الدينية السياسي في الديموقراطيات الوليدة على المدى الأبعد، فلو صمدت هذه الديموقراطيات الكيانية أو لو صمدت وحدةُ كياناتها المهددة كما في سوريا والعراق وليبيا، لربما ظهر في جيلٍ لاحق أن هذه الديموقراطيّات "المحلية" لا "العروبية"، الوطنية لا القومية، قادرةٌ على صناعة مستوى فعالٍ من"الاتحادية" العربية المنتِجة.
هناك تحديات هائلة تواجه هذه الثقافة السياسية العربية في الحاضر والمستقبل، وعلى رأسها، إلى الإقتصاد، الحساسيات الجهوية والدينية والمذهبية والقومية في شمال إفريقيا ومصر والمشرق في ظل انشداد المصالح الغربية الدولية، الإنشداد الساخن والمباشر والراسخ الى أوضاع العالم العربي، بما لايسمح لِنُخبِها الجديدة الحاكمة بالكثير من هامش الاستقلال عن السيطرة الغربية سوى ما "تلجأ" إليه من "استقلالية" هذه الثقافة السياسية أي خصوصيتها حتى على المستوى الذرائعي.
كنتُ أراجع رسالةَ الرئيس المصري الى أحد المؤتمرات الدولية التي عُقدت مؤخرا حول سوريا ولفَتَني أنه الوحيد الذي تحدث عن ضرورة مراعاة مخاوف "كل الجماعات" فيها.
لا شك أنها ليست حكمة الرئيس المصري وحده، بل حكمة الإتزان المصري الذي نراهن عليه. فالرسالة كتبَتْها أناملُ الديبلوماسية المصرية العريقة في وزارة الخارجية التي غُيِّبت طويلاً… والتي تحمل هذه الثقافة السياسية العربية المسؤولة و"التوحيدية".  

السابق
رحيل الأسد ليس ضمانة لنهاية الأعمال العدائية
التالي
لليلة واحدة فقط