تعالوا إلى تسوية.. عرجاء

ليس عيباً سياسياً، وتحديداً في لبنان، ان تكون التسوية نهجاً، وأن تصبح نموذجاً… العيب، أن يرتفع الصياح، داعياً للالتزام بالدستور والقوانين والمبادئ والأخلاق، وان تنتهي حفلة «الصراخ الديموقراطي» إلى تسوية عرجاء.
لا يليق الاستمرار بالكذب وترويجه وتحميل الخصوم عبء عرقلة بناء الدولة، والالتزام بالقوانين، والتقيد بالدستور… ولائق جداً، وضع مسارات للتسوية، كي لا تأتي عرجاء. هو لبنان هذا، يشيد به كثيرون، من مفكريه الوسطيين وديموقراطييه التوافقيين، بأنه صاحب عبقرية في ابتكار التسويات الكبرى، والتسويات الحقيرة، والفارق بين الاثنتين، ان التسويات الكبرى، يهجرها أصحابها فلا تطبق، بل وتطعن، كـ«الميثاق الوطني» سابقاً و«اتفاق الطائف لاحقاً»، أما التسويات الصغرى، حيث توزّع المنافع وتحاصص المراكز وتنفق الأموال وتعقد الصفقات، فإنها مقدسة، وتجلب خيراتها، ضمن توزيع غير عادل. تاريخ لبنان يلخص باستنزاف التسويات.
لدى كثير من اللبنانيين راهناً، يأس من السياسة والسياسيين. لا يعوّلون على تقدم، لا يصدقون إصلاحاً، لا يطمئنون لأمن، لا يندفعون لربيع لبناني… لدى كثير من اللبنانيين، قلق على الغد. هم متأكدون بأنه سيكون أسوأ. يقارنون بين ماضيهم القريب وذاك البعيد. يترحّمون على أطلالهم السعيدة، ويرون ان ماضيهم القريب كان خراباً، وان مستقبلهم الجديد، سيكون ركاماً… إذاً، لا بد من تسوية ما، ولو عرجاء.
البلاد التي يتم تركيبها على جماعات أهلية متناقضة، لا تليق بها الديموقراطية. تستحق ان تدار بالتسوية، مع احتساب نسبي للأضرار التي تسببها التسويات، والتي تفرضها موازين قوى، لا موازين العدالة.
هنا، في لبنان، التسوية أساس الملك.
يخيب رأي المنظرين والعقائديين واليساريين والحداثيين وأصحاب المشاريع «اليوتوبية» المطبقة في دول احترفت المواطنة واحترام الدستور والتغيير بالقوانين ومداولة السلطة ومحاسبة المسؤولين. يخيب رأيهم لأنهم يريدون ان يكون لبنان بلداً طبيعياً، بشعب طبيعي، وسياسات طبيعية… صحيح أنهم لا يطلبون المستحيل، ولكنهم يجهلون ان ما يفكرون به هو المستحيل بعينه، لأن لبنان، صياغة خاصة، لممارسة التفكك من جهة ومحاولات إيجاد التسوية من جهة اخرى، منعاً لاستمرار التفكك، وكي لا يبلغ مرحلة «عليّ وعلى أعدائي»، ولو بمساعدة أعداء لبنان.
وبناء على ذلك، يتعين أن ندرك أن للبنان، نصوصاً متقدمة، في الدستور والقوانين، ولكنه بلد لا يشبه نصوصه بالمرّة… انه لا يشبه إلا ذاته. المعطوبة أصلاً، مذ وجد كياناً سياسياً بعلة طائفية، تحوّلت إلى وباء مذهبي محوّل ومدعم من دول ترى إلى لبنان وظيفة لا وطناً. فمن الحكمة أن يتم التعامل معه بالتسويات. وكل محاولة لكسر هذه القاعدة الذهبية، تأخذ البلد إلى الهاوية. كل من يحاول من خلال مشروعه السلطوي، بناء دولة، يهدمها. كل من يحاول أن يمارس السلطة عبر تطبيق الدستور والقوانين، يأخذ البلد إلى التهلكة. «حذار الإصلاح… عيشوا بالتراضي، أمناً وقضاء واقتصاداً وتربية وفساداً».
لقد نجا لبنان، من خلال التسويات. الرؤساء «الأقوياء» (مقولة مبتذلة جداً) كسروا لبنان وهزموه. اعتدل فؤاد شهاب، فنجا، استقوى كميل شمعون، فأسقط لبنان، اعتدل فؤاد شهاب، فنجا لبنان مؤقتاً، برغم تمسكه بـ«الكتاب»، جن جنون «المارونية السياسية» فانتحرت وانتحر معها لبنان مع بشير الجميل، وتفتت مع أخيه أمين. أفضل الرؤساء، اولئك الذين يأتون من العتمة، من المجهول، من مكان غير محدّد، من هيولى، فيكونون، ضعفاء ومراوغين ومراهنين ويسيرون «الحيط الحيط»… كي لا ينكسر فخار لبنان، ويتناثر هباءً.
رؤساء الحكومات الأقوياء مصيبة على الصيغة، يصطدمون بالآخرين. أما الضعفاء منهم فيصدمون، ويتململون بصمت. الياس سركيس نموذجاً… لذلك يلزم أن يكون الشعار الواقعي في لبنان: «السلطة للضعفاء، الحكم للأوزان الخفيفة، هؤلاء لا يخوضون معارك على ظهر لبنان واللبنانيين، راجعوا تاريخ لبنان، كل قوي فيه كان مشكلة كبرى. لا يحتمل هذا الكيان الهش والهزيل والمتداعي، أوزاناً ثقيلة، لا من حيث الشعبية، ولا من حيث الشعار.
منذ أكثر من عقد، ومشكلة لبنان، أنه مقيم بين كتلتين متراصتين قويتين. قوتهما الذاتية كافية لمزيد من القوة الإقليمية الداعمة. قويان في لبنان… ولا حكم ولا سلطة ولا حلول ولا أفق… بلد متوقف، بلد يزداد ضعفاً، فيما فريق 8 آذار يزداد قوة وفريق 14 آذار موعود بازدياد ملحوظ في قوته.
مشكلتنا ان هذين الفريقين القويين المتعارضين المتنابذين المتنازعين المتمذهبين المدعومين، غير قادرين على انتاج تسوية، بحجم مياومين، فكيف ينتجان تسوية بحجم إبعاد لبنان عن رياح الربيع العربي الدامية.
احتاج لبنان، قبل تسوية الدوحة العرجاء والمؤقتة، إلى حرب شوارع وإضرابات واعتصامات وفراغ سدة الرئاسة، وشل الحكومة، واغلاق مجلس النواب وإنفاق من خارج الخزينة الخ… ولم تتأمن التسوية إلا بعد نشوء مناخات تصالحية سعودية ـ سورية ـ خليجية ـ فرنسية ـ أميركية، حصل فيها لبنان على رئيس جمهورية قادم من الهيولى العسكرية. بلا أمرة، وعلى حكومة مرتبة وموزعة بشكل غير عادل، وعلى انتخابات وفق نتائج ترضي جميع الأطراف.
هذا الفريقان اليوم في حالة هياج وصخب وفي حالة عجز. بعض اللبنانيين يطرب للصراع السياسي والصخب الاعلامي. لكن النتيجة ان لبنان ذاهب إلى الأمام، بلا عنوان لأي محطة يتوقف عندها. انه ينزلق إلى…
بين الفريقين المستشرسين والمراهنين على التغيرات في سوريا، والساعين إلى ترجمتها في لبنان، كل فريق على حساب الفريق الآخر، تبدو «الكتلة الوسطية» الهلامية حتى الآن، قشة الخلاص. علها تصبح خشبة قريباً، الكتلة مؤلفة من رئيس الجمهورية ونبيه بري ووليد جنبلاط ونجيب ميقاتي وآخرين، فهل تعي هذه الكتلة دورها الآن؟ هل تبدأ بنسج خيوط التسوية، ورسم معالم السلامة المؤقتة، فيعبر لبنان إلى انتخابات غير طاحنة، ورئاسة معتدلة، وحكومة الحد الأدنى من السلامة والأمن، يعترف أطرافها بعاهات لبنان المزمنة، ويتعاملون معها برفق، حيث لم يأت وقت الشفاء منها. وكل علاج يقتلنا ويحييها.
هذه الكتلة متفقة على عناوين ترضي الفريقين: تأجيل البتّ سلاح المقاومة، ومراعاة مقتضيات البحث عن الحقيقة، عبر المحكمة الدولية، إضافة إلى أن جسور التواصل غير مقطوعة.
هذه الكتلة تعمل راهناً بالتقسيط، كل يوم بيومه. ضربة على الحافر وأخرى على المسمار. أليس بإمكانها العمل على صياغة مشروع حياد مؤقت للبنان؟
ربما هذه يوتوبيا. قد يكون الحل مستحيلاً. لكن المحاولة مفيدة… التفكير بتسوية عرجاء ممكن، وإذا لم يكن ذلك كذلك فمن حق اللبنانيين الاستخفاف بزعمائهم وقادتهم ومسؤوليهم، والتبشير بفضائل اليأس.
وبانتظار أن تتغلغل الأزمة السورية إلى لبنان، فلا انتخابات، ولا حكومات، ولا رئاسات… ومن يظنّ غير ذلك، فلا شك في أنه من أصحاب النبوة، ويعلم ما لا نعلمه أبداً. 
 

السابق
هكذا واكبت معراب المعركة..والنصر
التالي
بسبب نقل أسلحة إلى سورية.. روسيا تتجه لمواجهة مع بريطانيا