العودة بين التمييت والتجويف!

موّت كثيرون حركة العودة للاجئين الفلسطينيين إما يأساً أو تواطؤا، وإما براغماتيةً أو تحايلاً. وجوّف كثيرون الحق لهذه الحركة من خلال تأويلات نصوص القانون الدولي حتى تضع هذا الحق بمنزلة الاختياري الوضعيّ أكثر منه في منزلة تقرير مصير الحدِّ الأدنى من العدالة الدولية. وبين التمّويت والتجّويف المنهجيين، واللذين مارستهما إسرائيل بخُبثٍ متمادٍ، استسلمنا جميعاً الى حتمياتٍ أسميناها شراً لا بُدَّ منه في مقاربة حلول هذه الحركة، لكأن التاريخ استنقاعٌ في مشهدية أكثر منه انخراطاً في صناعة هذه المشهدية.
في أي حال استندت حالة التمّويت الى قراءةٍ في موازين القوى، وغيّبت هذه القراءة هشاشات أخلاقية هذه الموازين، بما يعني أن «الأوشفيتزية» التي استندت اليها إسرائيل في قبضها على العقل الأوروبي على مدى أكثر من 64 عاماً باتت اليوم محطّ تساؤلٍ براديغميّ حتى في هذا العقل. كما أن «التوراتيّة ـ الممسحنة» التي صادرت فيها اليهودية المؤدلجة صهيونياً أدبيات كنسية، وتحديداً في الولايات المتحدة الأميركية، أمست الى تضاؤل في الفاعلية.
من هنا فإن التمّويت لحركة العودة استتب على توهّماتٍ فرضها تسويقٌ فكرة تقول أن الفلسطينيين هم الأضعف في دوّامة صوغ تسوية للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، والعرب هم الأبعد عن إمكان توحيد رؤاهم في كيفية تصويب مسارات المواجهة في الصراع العربي ـ الإسرائيلي. وفي هذه التوهّمات كثافة من اللاإرادة أكثر منه غياباً للرؤية، على أن الرؤية أنهكتها التجاذبات حتى الانتحار.
أما التجّويف لحركة العودة، فبدا نافراً بداية، خصوصاً في الضرب بعرض الحائط بقرارات الشرعية الدولية، والاكتفاء باستشعارٍ كلامي في قرارات جامعة الدول العربية، وصولاً الى أحلاف موضوعية جمعت الديكتاتوريات الأقلويّة أو العسكريتارية التي تسيَّدت العالم العربي، الى خيارات اسرائيل، ساندها في ذلك ثورةٌ شقت الصف العربي، فقدمت خدمةً للعدوّ أكثر منه تمتينا لخيارات ضربه. وتبدّى التجويف من ثم في ضخّ مفاهيم من مثل أن قضية اللاجئين إنسانية قبل أن تكون سياسية، وأن الحل لهذه القضية يجب أن ينتقل من السياق الدولي الى ذاك الإقليمي ليحل في الوطني، فيمسي اللاجئون في مواجهة مع الدول المضيفة لا مع اسرائيل. وقد جُند في هذا التجويف خبراء اكاديميون وباحثون في علم الديموغرافيا والجيوبوليتيك ؛غاصوا في بلورة مصطلحات «التطبيع المجتمعي» و«التطبيع القانوني» للاجئين حيث هم، وقد أسهمت في تدعيم هذه المصطلحات بعض سياساتٍ مبتورة تضييقية على اللاجئين في حياتهم اليومية، فبات هؤلاء أسرى ما أسموه معركة تحصيل حقوقهم المعيشية، وغابت عن أجندتهم، بل تراجعت فيها أولوية فلسطين.
إزاء هذين البعدين التمويتي أو التجويفي، ضلَّت فلسطين ـ الثورة بعض الطريق في الأردن ثم في لبنان، لتستدرك من ثم ضلالها، في فعل مصالحةٍ تجرّؤي عادت فيها براغماتية مقاومة ديبلوماسية، الى فلسطين ـ الجغرافيا، ولو أنها عادت الى بعضها، فأن حركة العودة في هذا النضال الوجودي أكثر منه الحدودي مفصلية. ومفصليتها تقوم في أن المقاومة عادت بالتاريخ الى الجغرافيا، ومنها الى مأسسة النضال بإعلان قيام دولة فلسطين، التي قد تتأخر؛ لكن مع إعلانها ثمة هُنا لحركة عودة اللاجئين إليها موقعٌ حاسم، إن أحسنت إدارة المعركة التفاوضية حول وضعهم النهائي، وإستبعاد اغتيالي التمويت والتجويف.
والمعركة التفاوضية آن أوان خوضها في الربيع العربي، حيث تتحرر الشعوب من كمِّ الأفواه، وقتل الارادات، كما تشكل الـ«بريكس» بما يجب فهمه إعادة البحث مع الولايات المتحدة وأوروبا في خطر إسرائيل نفسها على الأمن الدولي، لا مواجهةً سطحية بين هذين المحورين، يُنظَر لها اللائذون بغاياتٍ من نفس يعقوب.
أراها حركة العودة تعود إن عدنا الى متن التاريخ ومعنى الجغرافيا!

السابق
ثورة حقيقية في الأردن بزعامة الاخوان
التالي
الديلي تلغراف تنشر اعترافات “أحد الشبيحة” في سوريا