سفر بلا عودة

لم يعد الكلام عن أن المكوّن المسيحي هو من المكوّنات الأساسية للمشرق العربي يستقيم إلا مع التاريخ، من دون أن يكون له أي سند قوي على أرض الواقع، حتى في لبنان الذي كانت روحه مسيحية خالصة، فصار محوره إسلامياً خاصاً، يدور حول الفتنة بين سنته وشيعته الذين يهدّدون اليوم بتدمير كل ما بناه المسيحيون ـ ثم هدموه ـ من وطنية لبنانية، فشلت على مدى العقود الستة الماضية في استقطاب المسلمين وفي إقناعهم بأن الجغرافيا اللبنانية كافية وافية، مثلها مثل الجغرافيات العربية الأخرى.
عند كل بكاء على ذلك المكوّن المسيحي، يغيب عن البال أنه لم يكن مستنداً إلى الغلبة أو حتى المناصفة العددية، بل إلى الفكرة السياسية التي حملها المسيحيون في مختلف أقطار المشرق العربي، والتي ساهمت في بلورة الهوية القومية، لكنها سرعان ما انكفأت إلى المشروع القطري، بعدما أدركت قبل الشريك المسلم بزمن بعيد، أن الهوية العربية محظورة من جانب إسرائيل وحماتها الغربيين، وهي تتنافى مع جوهر الدولة العبرية ووظيفتها، فضلاً عن أنها خيالية إلى حد ما بالنظر إلى مستوى الوعي لدى المشرقيين عموماً.
ولعل ما يزيد شعور المسيحيين بالأسى هو ذلك التهافت المشرقي على تركيا، التي لا تخفي عثمانيتها الجديدة وإن كانت تزيّنها بشعارات وبرامج ومواقف جذابة تجعلها أقرب إلى رابطة الكومنولث البريطانية أو إلى منظمة الفرنكوفونية الفرنسية، مع أنها أقرب ما تكون إلى منظمة الدول المستقلة عن الاتحاد السوفياتي. وهو شعور لم يلاحظه المسلمون في أي بلد من بلدان المشرق، أو أنهم لم يحترموه ولم يناقضوا فحواه وخلفياته، بل اكتفوا بالتعبير عن العطف على المسيحيين لعلهم يقلعون عن فكرة الهجرة النهائية من ذلك الشرق الذي يقرّر الآن بوعي كامل العودة إلى مطلع القرن الماضي على أقل تقدير.
لكن هذا الأسى المسيحي تجاه الزحف الإسلامي على الباب العالي، يبقى تفصيلياً، وربما عابراً، إذا ما قيس بالرجوع الإسلامي إلى أسوأ أنواع السلفية وأخطرها، واعتبارها حلاً سياسياً واجتماعياً، وليس مجرد خط دفاعي أخير في مواجهة غزو أجنبي يستهدف المشرقيين عامة، مسلمين ومسيحيين، ويستدعي منهم توزيعاً عادلاً ومتكافئاً للأدوار، يؤدي في نهاية المطاف إلى إنتاج مشروع بديل يطرد الغزاة بأقل كلفة ممكنة وبأقل قدر من الأضرار والخسائر داخل المجتمعات المشرقية، التي لا يمكن لأي منها أن يزعم اليوم أنه قادر على الصمود والبقاء بأشكاله الموروثة من حقبة الاستعمار الأوروبي الأول.
مراسم التعازي التي يقيمها المسلمون للوجود المسيحي، هي في الغالب مخادعة، لأنها تفتقر إلى دليل على احترام ذلك الوجود ودوره الذي تقوّضه محاولات استقطاب المسيحيين من قبل السنّة حيناً والشيعة أحياناً… ولأنها أيضاً تفتقد فكرة مسيحية جديدة تشبه تلك الأفكار التي أسّست لمشاريع النهضة ثم العروبة ثم الوطنية، وكانت تبشّر على مدى القرن الماضي بميلاد مشرقي عربي جديد، فصارت تبحث عن بطاقة سفر بلا عودة

السابق
دم السوريين يلطّخ شرف العالم!
التالي
التيار بعد الأزمة: منكفّي الطريق