ربُّ المذبحة

لا تنظر إلى المذبحة كي تقولَ لنفسك إنها لم تقع.
لم تقع مذبحة في سوريا أمس الأول. ولم تقع عشرات غيرها مذ اندلعت ثورة هذا البلد وانفجر معها قيء البعث الحاكم. لم يحدث أن مات طفل مذبوحاً.
مذبحة. أي مفردة هي هذه؟ أي عالم نحن فيه ما زال يستخدم مثل هذا اللفظ المقزز للدلالة إلى ما صار؟ أي قدر؟
نلوك كلماتنا ونلوك رعبنا. نُذهل لقسوتنا كلما رأينا أجسادنا مكومة ممزقة بلا حيلة. لا شيء يستأهل موتاً كهذا، نقول، ولا شيء يستحق حياة كهذه في المقابل.
مذبحة تلو مذبحة. أسنظل في هذا الجزء الملعون من العالم هكذا إلى الابد؟ سنظل نراقص السكاكين ونرقص بها؟ وفي مقابل كل محمود درويش ينبت فينا سيظل يخرج من جوفنا بعث وقاعدة وما بينهما؟ سنظل أناساً بلا ثقل وبلا قيمة وبلا ظلال؟ ستظل رؤوسنا كأنما وجدت لتقطع وأعناقنا كأنما استقامت لنُجرَّ منها أو لتُداس، وكأنما ما خلقنا إلا لنستعبد؟
إلى حين هذا الحزن أم الى الابد؟ ثقيل على القلب كل هذا العنف. طعمه في الفم مرٌّ وفي الدم مرٌّ. متى نحيا كالعاديين في هذا الكوكب؟ متى نعيش بلا رعب على لحظتنا؟ متى نموت بعدما ظننا اننا اكتفينا من صنع الحنين ومن صنع الذكريات؟ متى تمضي الحياة فينا كنهر ولا تنتن كمستنقع؟ متى نحلم؟
مذبحة. ولم تنقطع يوماً ما دامت تقع اليوم. يا للشعوب الكئيبة. لا ترى وجه الله إلا إذا حملت حيواتها على اكتافها وهاجرت. لا تدري أن الارض تدور حقاً إلا إذا نظرت إلى أفق بحار أخرى. لا ترى لأقدامها على الارض أثراً إلا ان مشت على ارصفة تعترف بوجودها. لا تولد إلا إذا رحلت غرباً وتلاشت. لا تبتسم ولا تتنفس ولا تحس بالالوان إلا هناك، في المقلب الآخر، الملجأ الآخر. هناك حيث للظل قيمة وللهواء قيمة وللأحلام مهما صغرت قيمة.
وقعت المذبحة وتقع، نظرتَ في اللحم الممزق أم لم تنظر.
وقعت وهي تنظر في عينيك والكل مذبوح. والحاكم الكريه العتيق في ظلمه، يذبح القاتل ويذبح القتيل. كلاهما قتيله. كلاهما ضحيته. كلنا ضحيته. ضحية الرب الاسطوري المهووس بخنق عبيده حتى لو أغدقوا في تملقه وفي عبادته. فكيف اذا عصوه. الرب الملعون المهووس بطحن النفس وطحن الكلمة وطحن الحرية في رائحة الأرض وعطر الشجر. الرب الابدي المهووس بسحق الابتسامات. المهووس بسحق الاحتمالات. المهووس بتعدد الملامح في الوجوه. المهووس بزرع الجزمة في صور العيون.
كلنا ضحية الرب نفسه. الرب المرقط الغاشم الكاذب الموهوم. رب الحزب الواحد ورب اللون الواحد ورب القائد الواحد ورب الفكر الواحد ورب الفن الواحد ورب الادب الواحد. رب البوصلة التي لا تحيد عن الدجل. رب المذبحة الذي لا يجيد إلا انجاب المذابح. الرب الفاني وإن حاول ايهام قتلاه بأنه خالد. الرب المشؤوم. الرب الغراب.

السابق
جمهور المقاومة يبلع الموس
التالي
سوريا تكذب ..والطائرة التركية لم تسقط بصاروخ