مقبرة جماعية

«..وقد خطر لي السفر إلى بلاد الناس». وإذ وصلْت الى هناك، وقفْتُ في الساحة. كان كل شيء ساكناً وفارغاً. عرفت أنّ شيئاً ما ليس على ما يرام. لم تكن الساحة تنذر بأي حركة. حتى إنني كنتُ متأكداً أنّ الوقت متوقف. أخذتُ أفتّش عن ساعة عامة، وصرت أنتقل من ساحة إلى أخرى ومن شارع إلى آخر. لكنّي لم أجد الساعة، وفكرت أن الغياب هذا غريب وغير مفهوم. إذ كيف يمكن أن تسكن المدينة من دون عقرب ساعة ثابت؟ وكيف يمكن أن يتوقف كل شيء من دون موعد مقبل أنتظره؟ وكيف أنتظر تغيّر الثبات من دون أن أكون متيقّناً أن الوقت سيمشي لاحقاً؟ زاد من شكّي هذا أن لون النهار كان غير، حتى إني تحفّظت على وصفه بالنهار. ولم يكن ليلاً أيضاً. كان لون الضوء غير، وألوان الأشياء في الساحات غير. كيف يعيش الناس في بلاد الناس على هذا النحو؟ بل هل يعيشون أصلاً؟

وأنا أمشي، اصطدمْت بشيء صلب ووقعْت. ملقىً على الأرض، نظرْت ورائي لأجد حلقة. فقمْت واقتربْت منها وأخذْت أشدّها حتى طار الرمل عنها وبان باب خشبي في الأرض. شدَدْت الحلقة حتى فتحْت الباب ورميْته على مصراعيه إلى الجهة الأخرى محدثاً سحابة من الغبار. رأيْت درجاً تحت. وقفْت متحيراً شكاكاً. أنزل أو لا أنزل؟ نظرْت إلى ظلي ورائي على الأرض وخطوْت إلى الأسفل. درجة، درجتين، ثلاثاً، ثمّ وقفْت عند الرابعة والتفتّ إلى الأعلى لأجد ظلي واقفاً في مكانه. لم يتبعني، بل إنه تراجع إلى الوراء. هرب.
واصلْت خطوي. أخذت أتلمَس الجدار وأنزل. كبطل في قصة أطفال مرسوماً برداءة مفرطة نزلْت. كنغمة نشاز في أغنية عاشت مرة واحد فقط، نزلْت.
لمّا وصلْت إلى الأسفل، وجدتْني في باحة مصنوعة من الخشب. كان الناس مخبوئين هنا في حالة غريبة. معظمهم مضطجع على أربع، لا يستخدم الأرجل، ومكوّم فوق بعض. كأنهم في تلك الحالة التي تفصل الحياة عن الموت. لا هم أحياء، ولا هم أموات. كانوا يصدرون أصواتاً غريبة لا أفهمها. اختلطت جملهم على مسمعي. وإذ أخدتُ أمشي بينهم في رواق خشبي بدا أنه مصنوع خصيصاً لهذه الغاية، أمسكـَتْ يدٌ بكعب رجلي فتوقفْت. وجدت شاباً يافعاً مضطجعاً على الأرض. وسط ضجة كلام الناس الأخرى سمعتُ جملته لي. قال:

– هل تخاف عليك أمّك؟
لحظتُها عرفتُ أن أحداً اغتال الوقت، وأن هؤلاء الناس سيموتون عند عودتي. عرفتُ أني أمشي بالعكس، وأرحْت نفسي بالقول إني الآن في حلم. لكن، لم يسعني إلا أن أستغرب عندها: هل باتت الأحلام تأتيني من المستقبل، لا من الماضي؟  

السابق
حسين الجسمي يعود بالصيف
التالي
عزلة الحريريّة تحبط الجمهور