النظام الطائفي بالمجتمع الطائفي

يتدخل رجال الدين في السياسة على نحو غير مسبوق. ليس رؤساء الطوائف وحدهم بل شخصيات دينية ضمن دائرة المؤسسات أو خارجها. بعض الشخصيات لهم أنصار مسلحون. معظم الناشطين يشكلون هيئات معنوية يرئسونها ويتحدثون باسمها. خطاب رجال الدين هؤلاء ومواقفهم تتجه غالباً إلى الدفاع عن الطائفة و«كرامة الطائفة». الطائفة هنا هي المؤسسة السياسية والاجتماعية أكثر مما هي جماعة ثقافية. لا أحد يمس حرية ممارسة الطوائف لطقوسها وشعائرها الدينية وأشكال العبادات المختلفة بصورة مباشرة. هناك فائض من الممارسات والتظاهرات الدينية لتقوية العصبية والإيمان. ما يقوم به رجال الدين الآن هو تصدّر الحديث عن مصالح الطائفة الزمنية الدنيوية، التي تتمثل في حصتها السياسية من النظام، نفوذها وسلطاتها والوظائف العامة والخدمات وكل ما له علاقة بين المواطن والدولة. المواطن هنا هو فرد في الرعية أو في الجماعة بما هي كيان سياسي. يدخل رجل الدين في النخبة القائدة للحزب السياسي الذي هو الطائفة، أو في الجبهة السياسية لمجموع الأحزاب التي تمثل الطائفة تجاه الدولة وتجاه الآخرين.
في ميادين السياسة هناك توازنات قوى ومحاولات غلبة واختلالات في الحقوق وغبن ومناورات وخداع وتحوير للحقوق والمصالح وتلاعب بالقيم والمبادئ. يتورّط رجل الدين أو يورّط نفسه في كل هذا «السوق السياسي» ويضطر إلى اكتساب أدوات الاشتغال به. لا يعود رجل الدين مختلفاً عن أي ناشط سياسي أو زعيم أو حزب. يفقد رجل الدين دوره العلمي أو الفقهي أو الثقافي أو التوجيهي الإنساني والأخلاقي ليصبح جزءاً من دائرة الصراع والنزاع والسجالات والأخذ والرد.

تخسر الجماعات الطائفية نخبتها المثقفة الدينية والمدنية بوصفها حارسة هذه القيمة الثقافية المضافة المتمثلة بتيار معيّن من الفكر والرأي، وتخسر أدوات الحوار بينها القائم على الاغتناء المتبادل والتنافس الحر لتصبح جماعات مغلقة على مصالح سياسية واجتماعية وثقافات راكدة.
انتقلنا من الطوائف كمؤسسات سياسية اجتماعية ذات هوية ثقافية ومن أحزاب الطوائف المدنية التي عكست تاريخياً هذا المزيج بين الموقع والهوية والدور والفاعلية السياسية إلى شكل من التطابق بين «أحزاب الطوائف» وبين مرجعيتها الدينية. هذه النكسة الخطيرة في المشروع اللبناني يرده إلى أوليات التكوين، لعصر النزاعات الدينية، هو أكبر خطر يتهدد الصيغة اللبنانية والعيش اللبناني. ومن أسف القول إن العلمانية في لبنان تحوّلت من تبشير عام أشبه بالوعظ الديني ومن شبه حزب عقائدي «حزب العلمانيين» إلى حزب طائفة أو كسور في طائفة أو ملحق في تحالف أو جبهة طائفية. لا معنى للعلمانية اليوم كفكرة ولا معنى ولا قيمة فاعلة لأي حزب يدّعي العلمانية.

أصبحت العلمانية جزءاً من التوازن السياسي الطائفي وأصبحت «المدنية» المشتقة من نفي الدولة الدينية والدولة الطائفية وكأنها شكل جديد من إباحة طائفية المجتمع مع إلغاء طائفية الدولة. لم تتوافر حتى الآن صيغة سياسية جديرة بالالتفاف حولها جاذبة لأكثرية الناس أفراداً وجماعات.
لا تقوم الدولة في لبنان الآن على الدستور ولا على الإرث القانوني المدني التاريخي. الدولة التي نصفها بالفشل والعجز والتي نزاوج بينها وبين كل الواقع الطائفي المزري والمهين لحقوق الإنسان هي عبارة عن توازن قوى في المجتمع. لا يمكن للدولة أن تتقدّم مدنياً طالما أن المجتمع يذهب في اتجاه التفكك نحو نزاعات طائفية دينية. لا تجد الدولة المدنية لها ركيزة في المجتمع المدني عكس اللحظة
السياسية التي انطلقت فيها الدعوة إلى إلغاء الطائفية السياسية منذ أربعة عقود. كان التناقض آنذاك واضحاً بين نظام سياسي طائفي وكتلة وطنية واسعة تفيض مصالحها وإرادتها عن القواعد الطائفية.

هكذا تبدو الدعوة إلى «إسقاط النظام الطائفي ورموزه» بمثابة حنين إلى زمن سابق واستعادة لماضٍ تخطّته الوقائع. لذا يقول البعض إن النظام الطائفي اللبناني هو أقوى أنظمة المنطقة وأرسخها وأكثرها واقعية وربما إلهاماً للآخرين. لكن هذا الاستنتاج لا يلحظ أن النظام اللبناني قد تغيّر وأنه لم يعد كما كان من قبل ولا هو استقر الآن على صيغة واحدة حتى نفترض استمراره ورسوخه. في واقع الأمر فقد النظام نواته الصلبة القائدة التي تستطيع أن تديره وأن تعطيه شرعيته وأن تجعله ضامناً لجمع شمل اللبنانيين بطوائفهم ومناطقهم. هذا النظام يتخلى تدريجياً عن أقاليم الدولة ومقاطعاتها وينكفئ إلى حدود صغيرة جداً دفاعاً عن مصالح اقتصادية وسياسية باتت تضيق يوماً بعد يوم. ما سبق أن اعتبرناه «لبننة» للطوائف، وهو حقيقة بمعنى تركيز هذه الجماعات على المدى اللبناني لسلطتها ومشروعها، لم يعد «لبننة» إيجابية توحيدية أو ميثاقية، بل هو صار «لبننة» اختزالية أشد فتكاً من الانعزالية السياسية السابقة. لم ينجح «نفيان سياسيان» أن يصنعا أمة واحدة، «نفيا الشرق والغرب»، ولكن لن تنجح المشاريع الطائفية في ثقافاتها الدينية والمذهبية الحصرية في أن توحّد الأمة. صحيح أن لبنان لم يقسّم وربما هو لن يقسّم دويلات ولكنه لم يوحّد ولن يوحّد على شروط القوى السياسية القائدة الآن للجماعات الطائفية. فهل يظل اللبنانيون أسرى هذا الاضطراب التاريخي الدائم وهذه الموجات من النزاعات أم أنهم سيدركون الحاجة الإنسانية لصيغة ثابتة ترعى اجتماعهم السياسي من خلال نظام يساوي في الحقوق والواجبات قبل أن يبحث عن التوازن المستحيل بين الجماعات الطائفية؟   

السابق
بدء تصحيح الثانوية العامة والمتوسطة
التالي
أنان مبعوث روسي_إيراني؟!