غزة: جدلية التهدئة والتصعيد

لم تختلف جولة القتال الأخيرة في غزة في الجوهر عن مثيلاتها من الجولات السابقة لجهة العودة الأكيدة إلى التهدئة السائدة منذ عدوان الرصاص المصبوب مع تبدلات لافتة تتعلق بدخول حماس إلى الميدان لأول مرة منذ نيسان 2011 وحضور المؤثرات أو الخلفيات المصرية في التعاطي أو القتال الإسرائيلي الحمساوي، إن في ما يتعلق بالانتخابات الرئاسية والتطورات السياسية بشكل عام أو في ما يخص الوضع القائم في سيناء التي تقول إسرائيل إنها باتت منطقة آمنة للحركة الإسلامية وفصائل المقاومة الأخرى وحتى لتنظيمات إسلامية سلفية على علاقة ما بالقاعدة.
إضافة إلى الأهداف التقليدية من جولات القتال المتقطعة السابقة، والمتعلقة بجس نبض المقاومة، اختبار واستنزاف قدراتها، حاولت إسرائيل فرض شروط إضافية للتهدئة تتضمن حق الرد في قطاع غزة على أي عملية تستهدفها أكانت نقطة الانطلاق سيناء أو حتى الأردن والإيحاء في السياق بتحول القطاع تحت قيادة حماس وستار التهدئة إلى ما يشبه مركز القيادة والتوجيه لكافة الأعمال المعادية لإسرائيل في المنطقة.
البعد المصري كان حاضراً في جولة القتال الأخيرة، ليس فقط عبر تركيز إسرائيل على ما تصفه بالفوضى الأمنية في سيناء، وإنما استغلال الوساطة المصرية التقليدية والحاضرة دائماً لإقناع حتى القاهرة لتشديد قبضتها الأمنية في شبه الجزيرة والتهديد بالتصعيد ضد غزة بما يعنيه ذلك من استفزاز وإحراج للقيادة المصرية، خصوصاً مع الميدان المتأهب والمستفز أصلاً تجاه قيادته.
في السياق المصري أيضاً لا يمكن استبعاد الرسالة الإسرائيلية الموحية بأن فوز مرشح الإخوان في الانتخابات الرئاسية لن يغير من التعاطي التقليدي تجاه غزة أي الحصار- المخفف – والتهدئة والتصعيد من آن إلى آخر، مع عدم تجاهل حقيقة الاهتمام الإسرائيلي الشديد بالتطورات السياسية في أرض الكنانة والحرص على الحفاظ على شعرة معاوية مع القيادة المصرية والتمسك بمعاهدة السلام كامب ديفيد، حتى لو أُفرغت من محتواها وتحولت إلى مجرد اتفاق لوقف إطلاق النار كما قال ذات مرة رون بن يشاري المعلق العسكري البارز لصحيفة يديعوت أحرونوت.
حاولت "حماس" من جهتها صيانة الوضع الراهن والحفاظ على التهدئة كما هي، ورفض أي شروط أو قواعد لعب إسرائيلية جديدة، وهي اضطرت إلى النزول بنفسها وقيادة القتال لأول مرّة منذ سنة ونصف لاستعادة صورتها كحركة مقاومة بعدما فقدت جانباً من هيبتها كونها وقفت جانباً خلال جولات القتال السابقة والأهم أنها سعت لإبقاء التصعيد ضمن أدنى مستوى ممكن، والعودة للتهدئة بأسرع وقت ممكن أيضاً والاطمئنان إلى عدم استخدام غزة لتحقيق أي أهداف فئوية أو كساحة لتبادل الرسائل الإقليمية؛ وهو ما أثمر ليس فقط عبر تقصير مدة القتال، وإنما أيضاً تقليص الأضرار والخسائر البشرية والمادية في الجانب الفلسطيني، والحفاظ على التهدئة بشروطها أو قواعدها العريضة مثلما كانت منذ انتهاء حرب غزة الأخيرة في شتاء العام 2009.
إذاً، صيانة الواقع الراهن هي العنوان الكبير لجولة القتال الأخيرة بين إسرائيل وحماس، والتهدئة ما زالت مصلحة للطرفين أقله على المدى المنظور. تل أبيب لاستمرار الحصار وتبريره عبر شيطنة غزة وأهلها واتهامها بالمسؤولية عن تردي الوضع الأمني في المنطقة، ناهيك عن الحفاظ على الانقسام الفلسطيني الحالي، باعتباره مصلحة إسرائيلية من الدرجة الأولى. أما حماس من جهتها فتريد التمسك بالسلطة والمقاومة معاً، وهي تعتبر أن الزمن يعمل لصالحها والمتغيّرات الإقليمية تصب في مصلحتها أيضاً، وما عليها سوى الانتظار وإدارة الوضع الراهن بحرص وحذر إلى حين حلول وقت الحصاد وهو برأيها ليس ببعيد.
  

السابق
مقاومة من غرس الله
التالي
الحلقة الأخيرة: ضرب «التفاهم»