خط اطلاق نار

"كل من يُمكّن ابنه من الاشتغال بالتهريب فليأخذ في حسابه ان هذا الابن لن يعود الى بيته حيا". ليست هذه جملة من فيلم، بل هذه هي الرسالة التي نقلها مؤخرا قائد منطقة الجنوب تال روسو الى وجهاء القبائل البدوية في النقب.
والمعنى واضح وهو ان الحدود مع مصر أصبحت خط قتال. وكلما تقدم بناء الجدار زاد مقدار النار. وتغيرت في الشهرين الاخيرين أوامر اطلاق النار في الجيش الاسرائيلي فلم يعودوا يُفرقون بين المهربين والمشتبه في أنهم ارهابيون وهم يطلقون النار على كل مشتبه فيه – في الجو أولا ونحو الأرجل بعد ذلك.
لا يمر يوم من غير اطلاق نار على الحدود، ويكون ذلك احيانا أكثر من مرة واحدة في الليلة، ويوجد ضحايا ايضا بالطبع. وقد سجل فُرقاء من دورية أغوز أتموا في المدة الاخيرة عملا عملياتيا على هذا الخط 12 مصادمة مع اطلاق نار. وكان ذلك من وجهة نظرهم خطا ناجحا ولا عجب في ان الحدود المصرية أصبحت في نصف السنة الاخير الخط الذي يُطلب أكثر من غيره في الوحدات الممتازة. فلا توجد دورية أو وحدة خاصة اخرى تحترم نفسها لم تنصب كمائن هنا في الاشهر الاخيرة أو أرادت ان تأتي الى هنا على الأقل.
لكن ليس الجيش الاسرائيلي وحده هو الذي يطلق النار. ان تغيير أوامر اطلاق النار قد جاء في واقع الامر ردا على تغيير طريقة عمل المهربين من مختلف الأنواع. وقد بدأ البدو – ولا يهم هل يرشدون في تلك الليلة لاجئين أو باحثين عن عمل أو يهربون المخدرات أو وسائل القتال – بدأوا يعملون بصورة تشبه عمل الجهات الارهابية في سيناء. وأصبح من الصعب تفريق بعضهم من بعض.
في الماضي حينما كان المهربون يلاقون قوات الجيش الاسرائيلي كانوا يهربون وهم اليوم يطلقون النار. واذا ضايقهم الموقع المصري القريب فانهم لا يحجمون عن اطلاق النار ايضا على الجنود المصريين. وهكذا وبرغم ان الحديث الى الآن عن حدود سلام أصبحت أوامر الجيش الاسرائيلي لاطلاق النار تنظر اليها اليوم كأنها الحدود السورية أو اللبنانية أو الغزية، فاذا حدث دخول سيطلقون النار.
سجل في الاشهر الاخيرة على هذه الحدود نحو من عشرين قتيلا وجريحا يُعد فيهم بدوي اسرائيلي واحد على الأقل حاول ان يدخل من سيناء وجُرح وأُعيد الى مصر ومات متأثرا بجراحه. ولم يُصب الى اليوم لحسن الحظ باطلاق النار لاجئون. وتنجح الكمائن في هذه المرحلة ومواقع الرصد والسؤال الى متى.
أفضى تغيير تعريف الحدود كما قلنا من قبل الى تغيير في مقدار ونوع القوات التي ينشرها الجيش الاسرائيلي على طولها. وقد انشأت قيادة الجنوب ايضا "فرق استخبارية خاصة" مؤلفة من ناس من "الشباك" والشرطة والجيش الاسرائيلي يعملون في جمع معلومات استخبارية وتحديد أهداف لمنظمات الجريمة والارهاب لا في سيناء وغزة فقط بل في النقب ايضا.
تعمل الى جانب الفرق الاستخبارية وحدات خاصة تعمل على اعتراض المهربين مثل دورية "ريمون" المختصة بالارض الصحراوية، ووحدة خاصة من الشرطة أُنشئت قريبا لمعاملة الارهاب والتهريب و"لوتر" العربة المؤلفة من رجال احتياط من سكان المنطقة. وأُنشئت ايضا كتيبة جمع معلومات استخبارية جديدة ينحصر عملها في مراقبة الحدود. ويضاف الى كل ذلك كل الوحدات المختارة تقريبا التي تأتي الى الحدود في تناوب لتنفيذ عمليات المطاردة.
التاريخ يتكرر. هل ظن شخص ما انه انقضت ايام "ارض عمليات المطاردة" في غور الاردن بعد حرب الايام الستة؟.
يفترض ان تنخفض هذه الموجة العنيفة حينما يتم الجدار وتنصب على طوله منظومات الكترونية، ويفترض ان تتعرف هذه المنظومات على حركات مريبة على مبعدة بضع كيلومترات في عمق سيناء، وستقود التحذيرات القوات الى نقاط الدخول. لكن نعلم من معرفتنا للبدو أنهم لن يتخلوا بسهولة عن مصادر عيشهم. فسيجدون كم من الوقت يبقى منذ لحظة اختراق الجدار الى وصول القوات ويتعلمون كيف يختفون في هذه المدة في واد من الأودية. ويزعمون في الجيش في المقابل ان احتمال ان يدخل متسلل ويختفي في المنطقة سيكون صفرا تقريبا.
ضعف في الاستخبارات
في الاتصالات التي تجري في الاسابيع الاخيرة بين الجهات الامنية يطلب المصريون من الاسرائيليين ان ينفذوا بالفعل تغييرات ماهيتها أنها تغييرات جوهرية في الملحق العسكري لاتفاقات السلام. وقد أثارت الجهات العسكرية قبل ان يتولى الرئيس الجديد السلطة مطالب مشابهة، لكن اسرائيل غير مستعدة الى الآن للموافقة عليها.
حصلت مصر في الماضي على موافقات على أن تُدخل الى سيناء قوات أكثر وأفضل والى مناطق أكثر. وأجازت اسرائيل من جملة ما أجازت ادخال قوات صاعقة بدل قوات شرطة عادية وزيادة ست كتائب منها واحدة في منطقة طابا، وعُلل كل ذلك بالحاجة الى محاربة الارهاب.
ويطلب المصريون الآن ان يُدخلوا الى سيناء دبابات ومروحيات هجوم لمحاربة جماعات الجريمة والارهاب التي نشأت هناك. ويزعمون ان من المهم عندهم بصورة خاصة حراسة محاور مركزية مفتوحة وطرد العصابات المسلحة من مناطق حساسة كرفح والعريش. ويزعمون أنهم يحتاجون الى المدرعات والى سلاح مضاد للدبابات لأن العدو الذي يواجههم مسلح بسلاح متقدم.
ليس لاسرائيل من ناحية تكتيكية مشكلة في ان تدخل دبابات بعدد محدود، لكن هذا من ناحية سياسية كسر للقاعدة الحديدية وهي تجريد سيناء من السلاح. هل تريدون التغيير؟ تفضلوا سنفتح الاتفاق ونجري تفاوضا. واسرائيل تريد مقابلا ايضا، فليس الحديث عن زيادة قوات المشاة بل عن تغيير جوهري.
ونقول بالمناسبة ان اسرائيل لا يجوز لها ان تُدخل دبابات الى المنطقة الحدودية مع مصر، واسرائيل ايضا تنقض الاتفاق لأنه تقوم بين الفينة والاخرى دبابات بازاء رفح مثلا ويشتكي المصريون من ذلك.
منذ سنين ينظرون في الجيش الاسرائيلي في ارتياب الى نشر فرقة عسكرية شرقي قناة السويس ويتابعون خطط وتدريبات الجيش المصري. وفي جميع التدريبات الكبيرة التي تمت في الثلاثين سنة الاخيرة لم ينقض المصريون اتفاقات السلام، وانتهت التدريبات بالدفاع عن القناة عن جانبيها. لكن الأسهم على الخرائط تبلغ الى اسرائيل.
ان المرونة التي يمكن ان تُظهرها اسرائيل بازاء نقض الملحق العسكري هي أقل اليوم. كانت لدينا قبل 25 سنة وسائل لمعرفة ما يحدث في سيناء في مستويات حميمة جدا بحيث كنا نستطيع ان نعلم أي دبابة دخلت وأي شاحنة خرجت، وكان كل شيء يُسجل. ولا ينجحون اليوم حتى في التعرف على من أطلق القذائف الصاروخية من سيناء على المطارات في النقب قبل نحو من شهر، ولم ينجحوا الى اليوم ايضا في معرفة من الذي وقف من وراء العملية في شارع 12 قبل أكثر من سنة. وستكون مفاجأة جيدة اذا نجحت الاستخبارات في معرفة بخلية الجهاد العالمي تنظم نفسها في شقة في العريش – ويصعب مع هذا الضعف الاستخباري اظهار السخاء.
ان الجيش المصري غير مستعد – ويبدو انه لا ينوي ايضا – لنقض اتفاق السلام بل بالعكس. اذا كان ما يحدث في القناة حينما تمر فيها سفينة حربية اسرائيلية مشيرا الى النوايا المصرية فاننا ما نزال في وضع جيد: ففي الاشهر الاخيرة تحصل سفن سلاح البحرية على حراسة لا مثيل لها وهي تمر في القناة. وليس الخوف المصري من ضرر سياسي واعلامي بل من ضرر اقتصادي في أعقاب شلل العبور لاسابيع طويلة.
ان الذين يعارضون في البلاد فتح الملحق العسكري وادخال دبابات ومروحيات حربية الى سيناء لا يُقدرون ان توجه هذه الدبابات نيرانها على اسرائيل. فالخوف هو من السابقة لأنه ستوجد بعد المرة الاولى ذريعة اخرى لزيادة اخرى للقوة. لا يُصدقون في اسرائيل ان المصريين ينوون أو أنهم قادرون على علاج الارهاب والتهريب من سيناء. ويقول تقدير الوضع السائد ان هناك احتمالا عاليا لأن لا يصمد الرئيس مرسي في الحكم لأنه لن يستطيع التغلب على الازمة الاقتصادية. ومن جهة ترتيب الجيش المصري للأفضليات يأتي الاستثمار في الامن في القاهرة أولا وبعد ذلك على حدود ليبيا الاشكالية. ويصرف الجيش المصري معظم موارده الى الدفاع عن مؤسسات الحكم لا في العاصمة وحدها، وتتم في عشرات المدن أحداث شغب يومية بسبب الوضع الاقتصادي وإن لم تبلغ الى العناوين الصحفية – لا في اسرائيل فقط بل في العالم العربي ايضا.
حتى لو كان مرسي يريد ان يعالج قضية سيناء فانه لا يستطيع لأنه لا يملك موارد تطوير وليس عنده أي امكانية لتحسين مستوى عيش الناس هناك، وتكون النتيجة ان سيناء برميل مواد متفجرة.
الثقاب الايراني
ان الثقاب الذي قد يشعل الحدود ويُدخل اسرائيل في توتر مع النظام الجديد في القاهرة موجود في غزة، لأنه تحدث هناك اجراءات خطيرة تدفع اسرائيل الى وضع لا يكون لها معه خيار. والهدوء مضلل. لكنه في واقع الامر لم يكن الجيش الاسرائيلي منذ كانت عملية "الرصاص المصبوب" أقرب الى عملية عسكرية ذات سعة وقوة غير عاديتين كما هو اليوم. ولم يكن ينقص الكثير كي تنتهي جولة القذائف الصاروخية الاخيرة الى عملية عسكرية كبيرة في القطاع.
حذر رئيس هيئة الاركان قبل أكثر من سنة وكرر ذلك في المدة الاخيرة من أنه لن يكون مناص من مهاجمة القطاع بشدة. وتحدث غانتس قبل نحو من سنة عن القدرات الكامنة للطرف الثاني وأصبحت القدرة الكامنة اليوم تتحقق، وغزة تنتج بنفسها قذائف صاروخية بعيدة المدى يمكن ان تصل الى قلب اسرائيل وتهدد أهدافا استراتيجية. تخيلوا صواريخ تسقط في مطار بن غوريون أو حوله وتشل مركز الدولة.
وهناك ما هو أخطر من ذلك، فاليوم توجد في غزة ايضا ارادة اصابة أهداف استراتيجية. وتوجد فرصة لايران التي تحاول صرف الانتباه عن مشروعها الذري وعما يحدث عند صديقها الجيد بشار. ان التغييرات في مصر والفوضى في سيناء وعدم الاستقرار على الحدود فيها ما يشعل حريقا يخفف الضغط عنهما. ليس لحماس الآن مصلحة في تسخين المنطقة، لكن الجهاد الاسلامي بُني منذ كانت "الرصاص المصبوب" على ان يكون جسما عسكريا ايرانيا من جميع جوانبه، وسيستجيب ناسه لكل أمر يأتي من طهران. في اللحظة التي تشتعل فيها غزة ستسقط سائر أحجار الدومينو ايضا. فخلايا الجهاد العالمي في سيناء مثلا لن تقعد مكتوفة الأيدي.
تحتاج اسرائيل جدا اليوم الى منظومة التنسيق مع اجهزة الأمن المصرية وصلاتها بحماس. وقد كانت الصلات بين اجهزة الامن الاسرائيلية والمصرية حتى المدة الاخيرة منظومة كوابح ناجعة تحول دون تدهور الوضع مع القطاع – والسؤال هو ما الذي بقي من منظومة الكوابح هذه.  

السابق
لقاء مصالح
التالي
تراث اسحق شمير السياسي