السياسة للدولة..الدين للمجتمع

ثمة معلومات شائعة بأن تسويةً، برعاية اميركية، بين الاخوان المسلمين والمجلس العسكري جرى بموجبها اعلان فوز الدكتور محمد مرسي بالرئاسة مقابل تسليم الاخوان المسلمين بدورٍ قيادي للجيش في الدولة والحكومة والشؤون الإستراتيجية.
بعض المقربين من قيادة الاخوان كما من المجلس العسكري سرّبوا معلومات، متطابقة حيناً ومتعارضة حيناً آخر، حول أُسس التسوية وتفاصيلها والذين توسطوا وتفاوضوا وتوصلوا اخيراً الى التفاهم بشأنها.
قيل ان التسوية جرى توثيقها في محضر. حتى لو كان ذلك صحيحاً فإن مضمون المحضر سيبقى، على الارجح، طي الكتمان فترةً طويلة. ما جرى تسريبه من المحادثات هو الذي سيبقى مدار التحليل والتقدير. فما هي أهم التفاصيل؟

ليس سراً ان المجلس العسكري كان منحازاً الى المرشَّح الخاسر احمد شفيق. فهو عضو «الجهاز» الذي يدير القوات المسلحة بعيداً من الاضواء ويتخذ القرارات ذات الطابع الإستراتيجي.
غالبية اعضاء «الجهاز» كانت تريد ترتيب نتائج الإنتخابات لدى اللجنة العليا المشرفة عليها ليصار الى اعلان شفيق فائزاً. الاقلية عارضت وحذرت من مغبة سلوك هذه الطريق. استشهدت بمواقف لقادة اميركا واوروبا الذين كانوا حذروا من مغبة التأخير في تسليم السلطة للمدنيين. لعل بعضهم ذكّر سائر الأعضاء ايضاً بما اوردته مجلة «ذي ايكونومست» الرصينة حول القوات المسلحة التي ينقاد شطر منها لكبار الضباط بينما ينقاد شطر آخر لضباط شباب يميلون الى القوى الثائرة في ميدان التحرير.
التوفيق بين الغالبية والاقلية استوجب تدخلاً «خارجيا»، مباشراً او مداوراً، لا سبيل الى تأكيد مدى صحته ووزنه. يكفي في الوقت الحاضر التنويه بأن الاخوان المسلمين كانوا على تواصل، قبل الثورة وبعدها، مع جهات اميركية غير رسمية تعمل بالتنسيق مع جهات رسمية. لا يُستبعد، والحالة هذه، ان يكون احد الوسطاء من هذا الوسط قد قام بجهد في هذا السبيل مع فريقي «الجهاز» لإنضاج اسس التسوية التي تكرّست اخيراً بلقاء بين المرشد العام للاخوان

محمد بديع ورئيس حزب الحرية والعدالة الدكتور محمد مرسي من جهة ورئيس المجلس العسكري المشير حسين طنطاوي ورئيس اركان الجيش الفريق سامي عنان من جهة اخرى. فما هي أهم اسس التسوية؟
تَرَدَدَ ان المحادثات التي دارت بين الاطراف المعنيين عبر الوسيط الداخلي او الخارجي تمحورت حول ست مسائل: أولاً، دور الجيش في الدولة ولا سيما لجهة حقـه في تحديد ميزانيته، والمحافظة على مؤسساته الاقتصادية، واجراء تشكيلاته وترقياته. ثانياً، ايلاء الجيش وحده مسؤولية أمن سيناء. ثالثاً، المحافظة على معاهدة السلام مع «اسرائيل». رابعاً، عدم تطبيع العلاقات مع ايران. خامساً، متابعة سياسة مقاومة الإرهاب ولاسيما «القاعدة». سادساً، الحرص على احترام حقوق الانسان ولاسيما حقوق الاقليات غير المسلمة (الاقباط) والمرأة.

الحق ان الاخوان المسلمين كانوا تدارسوا معظم هذه المسائل قبل ثورة 25 يناير، كما توصّلوا بشأن بعضها مع قوى قومية وديمقراطية ويسارية، داخل مصر وخارجها، الى مفاهيم مشتركة.
في مسألة الدين والدولة، أسقط الاخوان مقولة تديين الدولة او اسلمتها بأن اعتبروا السياسة من اختصاص الدولة ومجال نشاطها ونشاط السياسيين فيما يبقى الدين من حق المجتمع ومجال نشاط اعضائه، افراداً وجماعات. بإختصار، السياسة للدولة والدين للمجتمع. لذلك لم يتوانوا عن رفع شعار «الدولة المدنية الديمقراطية الدستورية الحديثة « بما في ذلك احترام حقوق الانسان وفي مقدمها حقوق المرأة والاقليات. كما لم يعترضوا، ضمناً، على الإحتفاظ بالمادة الثانية من دستور 1971 القائلة إن «الشريعة مصدر رئيس للتشريع»، اي بالتخلي عن الشعار القائل إن «الشريعة هي المصدر الوحيد للتشريع».

في مسألة معاهدة السلام مع «اسرائيل»، سبق لقادة اخوانيين ان صرحوا أن المعاهدة ليست اولوية، وانه يقتضي بادئ الامر الإهتمام بالأزمة الإقتصادية، وانه في سياق التصدي للأزمة يصار الى معالجة تداعيات المعاهدة وفي مقدمها مسألة السعر المتدني للغاز الذي كانت مصر بموجبه تبيع «اسرائيل» كميات ضخمة منه. كذلك لا يمنع احترام المعاهدات الدولية التي وقعتها مصر، وبينها معاهدة السلام مع «اسرائيل»، من معالجة انعكاساتها على قضية فلسطين عامة ولاسيما ما يتعلق منها بقطاع غزة ومحاصرته واغلاق المعابر المؤدية اليه. غير ان ذلك كله لا يمنع مصر في المستقبل من اعادة النظر بالمعاهدة او إلغائها.

في مسألة تطبيع العلاقات مع ايران، كان الدكتور مرسي قد صرح لوكالة الانباء الايرانية (فارس) عقب فوزه في الإنتخابات انه «يجب استعادة العلاقات الطبيعية مع ايران على اساس المصالح المشتركة للدولتين وتطوير مجالات التنسيق السياسي والتعاون الإقتصادي لأنه سيحقِّق التوازن الإستراتيجي في المنطقة، وهذا كان ضمن برنامجي».
وكالة «فارس « نشرت تصريح مرسي في تاريخ لاحق للتسوية التي توصل اليها الاخوان مع المجلس العسكري التي لم تتضمن، على ما يبدو، بنداً متوافقاً مع مضمون التصريح، فإضطر مرسي الى نفيه. لكن قيادات اخوانية اضطرت بدورها الى الإعتراف لاحقاً بحقيقة التصريح. المحللون السياسيون فسروا الاعتراف بأنه استدراك من الاخوان يرمي الى تحسين العلاقات مع ايران تدريجاً وذلك تفادياً لإتخاذ واشنطن مواقف سلبية من مسعى مصر للحصول على قروض ومساعدات من صندوق النقد الدولي.

في مسألة دور الجيش، امكن للوسطاء تدوير الزوايا بين الطرفين على نحوٍ ٍكرّس للقوات المسلحة وضعاً خاصاً في الدولة والنظام سيصار الى ترجمته في الدستور العتيد والقوانين المتفرعة عنه. ابرز بنود التسوية ان يكون لقيادة القوات المسلحة حق تقدير ميزانيتها وصرفها، والإحتفاظ بالمؤسسات الاقتصادية والمصانع التي تملكها وتديرها ويقدّر حجمها بما يزيد عن 30 في المئة من مجمل حجم الإقتصاد المصري. فوق ذلك، يكون من حق قيادة القوات المسلحة تسمية وزير الدفاع ، كما يكون لها رأي في تقرير السياسة الخارجية في الامور ذات الصلة بالامن القومي.
في مسألة امن سيناء، وافق قادة الاخوان على ان يبقى الجيش مسؤولاً عنه، وهي مسؤولية دقيقة ليس لدى الاخوان ازاءها خيار بديل. كما ليس لهم اعتراض، كما يبدو، على سياسة مقاومة الإرهاب التي يعتمدها المجلس العسكري.

من مجمل ما تقدّم بيانه، يتضح ان مسألة التوفيق بين قيادة الاخوان المسلمين والمجلس العسكري لم تنطوِ على قضايا مستعصية الحل لأنه سبق للأخوان ان طوروا سياساتهم بشأنها واصدروا مواقف علنية متقدمة لاقى بعضها استحسان القوى القومية والديمقراطية واليسارية. هذا من جهة، ومن جهة اخرى فإن مقاربة الاخوان لصراعهم مع المجلس العسكري تقوم على اساس ان القضية المركزية هي تأمين وصولهم الى السلطة والامساك بمقاليدها. ففي السلطة يصبحون في مركزٍ اقوى وافعل لمواجهة المجلس العسكري وتوجيه الشؤون العامة، كما الصراع، وجهةً مؤاتية لهم ولحلفائهم السياسيين الجدد من قوميين وليبراليين وديمقراطيين ويساريين.
هذا على افتراض انهم جادون فعلاً في مسألة إقامة جبهة متماسكة مع هؤلاء جميعاً.  

السابق
التدمير في تمبكتو: من المسؤول عن هذا الجرم على الاولياء
التالي
لمعارضة تليق بسوريا