نزع السلاح وسيلة لا غاية!

يتداخل ما هو "طبيعيّ" وما هو "غير طبيعيّ" في نظرة العديد من اللبنانيين "السياديين" إلى حركة الشيخ أحمد الأسير ومواقفه واعتصامه الأخير.
فمن جهة، هي "نتيجة طبيعية" للصلف المذهبي المتباهي بسلاحه بشكل استفزازيّ، ميدانياً وخطابياً، من 7 أيار إلى "صلح الدوحة"، ومن نقض نتائج انتخابات حزيران 2009 إلى نقض "صلح الدوحة". و"نتيجة طبيعية" لإمعان "حزب الله" في محاولاته المستميتة لإحلال نظام هيمنة فئويّ مسلّح، وعجزه عن تأمين ذلك على نحو ثابت وشامل، خصوصاً في مرحلة الثورة السوريّة المقوّضة للنظام البعثيّ.
وهي "نتيجة طبيعية" للهوّة المستفحلة بين القول والفعل، وبين المرغوب فيه والمقدور عليه في معسكر 14 آذار. و"نتيجة طبيعية" لسياسة الركود التي تعيشها الحركة الإستقلالية، على المستويات كافة، كأزمة وعي وتنظيم وتحريك، وكانتقال من محنة "ثورة بلا ثورة" إلى مغبّة "نقد ذاتي من دون نقد ذاتي".
وهي "نتيجة طبيعية" للفشل الذريع في اطلاق حوار وطنيّ حقيقيّ وقادر على الجمع بين مداواة الإنشقاق، الأهليّ العميق، والكيانيّ المتفجّر، و"تفكيك" الهيمنة المسلّحة لتنظيمات يقودها "حزب الله" على المجتمع والدولة، و"إعادة تركيب" المجتمع كفضاء تعدّدي مشترك ومسالم، والدولة، كدولة للجميع، ومؤتمنة على قرار الحرب والسلم.
وفي المقابل، تدرج هذه الظاهرة في نطاق "الظواهر غير الطبيعيّة".
فلئن كان مطلبها، "نزع السلاح"، يرجع إلى أصل "14 آذاريّ"، فإنّ أسلوبها في الكلام وفي التحرّك يذكّر بمأثور "8 آذار".
وإذا كان مطلب "نزع السلاح" له قاعدة جماهيريّة عابرة للطوائف، ومؤطّرة أساساً بالثنائية الإسلاميّة المسيحية، وبالتلازم العضويّ مع مفهوم "المناصفة الإسلاميّة – المسيحية"، فإنّ هذه الظاهرة "الأسيريّة" تبقى محدودة شعبياً، ومحصورة في جزء من حالة داخل مذهب داخل طائفة.
وكما أنّ "السلاح" لا يمكن أن يكون في أية حال من الأحوال غاية في ذاته، فإنّ "نزع السلاح" لا يمكنه أن يكون غاية في ذاته، ولا مناص من طرح السؤال: نزعه، بالتأكيد، وفي أسرع وقت، لكن من أجل إحلال ماذا؟ من أجل إحلال سيادة القانون على جميع أراضي الجمهوريّة اللبنانية، والمساواة القانونية بين جميع المواطنين اللبنانيين، أم من أجل دفع الأمور في إتجاه لا مجال فيه لأي واقع يسند مقولات "مساواة" و"قانون" و"سيادة" و"دولة" بأي مضمون مفيد ولو بالحدّ الأدنى؟
وهنا، نصل إلى بيت القصيد، فـ"قوى 14 آذار" ميّزت دعوتها إلى "نزع السلاح" وقالت إنّها تعني إطاراً مرحلياً يقضي بوضعه تحت إمرة الدولة اللبنانية أو في "كنفها"، وهذا ليس بموقف "قصويّ" لأنّه لا يشترط مقولة "احتكار الدولة لمنظومة العنف الشرعيّ" المرتبطة بالمنظومة الفكرية لعالم الإجتماع الألمانيّ ماكس فيبير. ماذا يريد في المقابل القصويّون، وضمنهم الشيخ الأسير؟ تجاوز مقولتي "الأمرة" و"الكنف" إلى مقولة "احتكار الدولة لمنظومة العنف الشرعيّ"؟ ليس هناك ما يحمل على الإعتقاد بأنّهم يريدون ذلك!
وأساساً، فإنّ مقولة "احتكار الدولة لمنظومة العنف الشرعيّ" لم يطرحها ماكس فيبير من فراغ، أو كمقولة نظريّة خالصة، بل كانت هذه مقولة سجاليّة طُرِحَت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، يوم انتشرت تنظيمات مسلّحة يساريّة متطرّفة ويمينيّة متطرّفة في "جمهوريّة فايمار"، وكان القصد من هذه المقولة في البداية موقفاً سلبياً من التنظيمات اليساريّة المتطرّفة . إلا أنّها صارت تنطبق لاحقاً على كل المناخ المتفجّر الذي عاشته ألمانيا المهزومة والمأسورة بـ"إملاءات فرساي"، في الحدائق "التحتية" لديموقراطيتها البرلمانية، المأزومة الشرعية. وهكذا نرى أنّ ليس هناك تطبيق ميكانيكي لمقولة "احتكار الدولة لمنظومة العنف الشرعيّ" من ناحية، كما نرى أنّ المقولة لا تطرح أصلاً إلا في بلد تنتشر فيه حالات مسلّحة خارجة عن سلطة الدولة. على صعيد آخر، فإنّ هذه المقولة جاء رفضها من موقع اليسار في البداية، كونه رفض "احتكار الدولة للعنف" من موقع القول بنظرية "الشعب المسلّح"، لكن هذا اليسار هو أكثر من دفع الثمن لرفضه "احتكار الدولة للعنف"، مع وصول النازيين الى السلطة.
في لبنان أيضاً، ومهما كان حجم الضرر من سلاح "حزب الله"، فلا يمكن أن تطبّق مقولة "احتكار الدولة لمنظومة العنف الشرعيّ" بشكل سحريّ. هذا يعني أيضاً، أنّ رفض منطق "حزب الله" الذي يحيط "السلاح" بهالة من القدسيّة بشكل يحرّم الكلام العمليّ والبرنامجيّ حوله لا بدّ من ان يترافق مع رفض "الصنمية المعكوسة": فالحديث عن "السلاح" بالمطلق والمجرّد، يشبه إلى حدّ ما الحديث "التقديسيّ" للسلاح. وهذا ما ينبغي أن تتنبه إليه الحركة الإستقلاليّة أكثر فأكثر. ان أخذ الشيخ الأسير لـ"قضيّتها"، في "نزع السلاح" على عاتقه، ينبغي أن يدفع هذه الحركة الى تمييز قضيتها بشكل أعمق، وأفضل، وأكثر جذريّة في آن. انها في الأساس قضية رفض أن تقوم في لبنان هيمنة مسلّحة لفريق على آخر. أي رفض أن تكون الهيمنة الفئوية قائمة، أو جار العمل لارسائها، ورفض أن تكون فوق ذلك هيمنة مزمع إرساؤها وتأبيدها بقوّة السلاح.
حيثما يسأل الشيخ الأسير عن "نزع السلاح" بالمطلق، ينبغي أن تعيد 14 آذار التذكير بأنّ "نزع السلاح" هو وسيلة، لأنّ السلاح نفسه هو وسيلة لهيمنة فئة على فئة، وليس غاية في ذاتها كما تحاول هذه الفئة المسلّحة أن تضلّل نفسها وتضلّل سواها.
 

السابق
مزارعون يقتلعون أشجار الحمضيات بعد أزمة التصدير في صور
التالي
مؤسسات الصدر تحتفل بتخريج طالبات