جمهوريّات بلا رؤساء

يجوز الشكّ كثيراً في أن يغدو عبد ربّه منصور هادي رئيساً لليمن بالمعنى الذي كان فيه علي عبدالله صالح رئيساً. والشكّ يغدو أكبر كثيراً في حالة رئيس المجلس الوطنيّ الليبيّ مصطفى عبدالجليل، أو رئيس الحكومة الانتقاليّة عبدالرحيم الكيب، أو أيّ ليبيّ آخر، بصفتهم بدلاء لمعمّر القذّافي يحظون بالسلطات المطلقة التي كان يحظى بها. وقد جاء قرار تونس تسليم البغدادي المحمودي إلى طرابلس ليشي بمحدوديّة الصلاحيّات التي يتمتّع بها الرئيس التونسيّ الجديد، المنصف المرزوقي، قياساً بصلاحيّات رئيس الحكومة حمادي الجبالي. حصل هذا فيما كان المجلس العسكريّ في مصر يقلّص صلاحيّات أيّ رئيس جمهوريّة منتخب. فما إن اختير محمّد مرسي بفارق ضئيل، حتّى وصفه الكثيرون بصاحب المنصب الاحتفاليّ المنزوع السلطات.
قبل ذلك، وبعد حصول التغيّر العراقيّ الكبير في 2003، احتلّ سياسيّ كرديّ هو جلال طالباني رئاسة الجمهوريّة في العراق. ومن المشروع الشكّ في قبول العرب العراقيّين بمنح الرئاسة لكرديّ لو أنّ تلك الرئاسة تملك طاقة تنفيذيّة فعليّة. فوق هذا فإنّ رئيس الحكومة نوري المالكي هو المتّهم من قبل معارضيه بمحاولة فرض نظام ديكتاتوريّ يذكّرهم بنظام صدّام حسين.
حتّى لبنان الذي اقتصر التغيير فيه على اعتماد «اتّفاق الطائف» في 1989، انتقلت حياته السياسيّة من التمحور حول رئاسة الجمهوريّة إلى تعدّد الرئاسات. مذّاك يتعاقب على اللبنانيّين رؤساء جمهوريّة هم أضعف من رؤساء الحكومة ومجلس النوّاب.
هذا لا يلغي أهميّة القيمة الرمزيّة في بعض الحالات، كوصول كرديّ إلى المنصب الأوّل نظريّاً في العراق، أو فوز محمّد مرسي بالمنصب الأوّل نظريّاً في مصر، ومن ثمّ فشل مرشّح «الفلول» أحمد شفيق. إلّا أنّ الوجهة العامّة لا تخطئها العين. وهي لئن تعدّدت أسبابها بين بلد وآخر، وبين تجربة وأخرى، يبقى المشترك بينها شيوع ظاهرة الردّ على «السيّد الرئيس» واتّساع نطاقها.
ذاك أنّ التاريخ الحديث للمنطقة قام في وجه أساسيّ من وجوهه على استبدال الشرعيّات التقليديّة للأنظمة الملكيّة بشرعيّات كاريزميّة وانقلابيّة مارس أصحابها أدواراً مَلكيّة متضخّمة وصلت ببعضهم إلى حدّ التوريث، إمّا فعليّاً (الأسد في سوريّة) أو استعداداً (صدّام في العراق ومبارك في مصر). فـ «السادة الرؤساء» الحبيب بورقيبة وجمال عبدالناصر وأنور السادات وزين العابدين بن علي وحسني مبارك وحافظ الأسد وصدّام حسين ومعمّر القذّافي وهواري بومدين… كانوا كلّهم، ولو على تفاوت، صانعي الحياة السياسيّة والاجتماعيّة لبلدانهم، إمّا من دون أيّة قدرة على مساءلتهم، أو بقدرة شكليّة لا تتعدّى الحدّ الأدنى. حتّى اللبنانيّون الذين اعتمدوا دائماً نظاماً مختلفاً، أقرب إلى الديموقراطيّة البرلمانيّة، عرفوا رؤساء بالغي القوّة ككميل شمعون وفؤاد شهاب، ممّن عُدّت قوّتهم حجر عثرة أمام تطوير تلك الديموقراطيّة.
لكنْ، إذا كان هذا هو المعنى الإيجابيّ لذاك التحوّل، فإنّ له معنى سلبيّاً مفاده استحالة الإجماع على وجه يرمز إلى وحدة الأمّة. فقد وصل التفتّت المجتمعيّ، بما فيه من صعود العصبيّات، إلى سويّة لا تتجانس مع أيّ «سيّد رئيس» ولا يتجانس معها.
وما بين المعنيين هذين تشقّ الوجهة الجديدة طريقها وتكتشف أشكالها التي لا يزال غموضها يفوق وضوحها كثيراً. 
 

السابق
ليس للأسد إلا إيران
التالي
شبح الحرب يحوم فوق منطقة الشرق الأوسط