الإنتقام العادل للتاريخ أم الأعمى؟

سنرى في السنوات المقبلة وخصوصاً في مصر هل استلام التيارات الدينية للسلطة هو تقدمٌ تقدميٌّ لدولنا ومجتمعاتنا أم تقدمٌ رجعيٌّ ؟ هل هو تكريسٌ لديموقراطية تأتي بالتحديث العصري(في زمن ما بعد الحداثة) أم هو ردة ظلامية انخرطت فيها فئات واسعة من مجتمعاتنا ونخبنا؟

إعلانُ فوزِ الدكتور محمد مرسي بالرئاسة المصرية كان يجب أن يحصل إذا غلّبْنا منطقَ التقدم التاريخي والثورة حتى لو – فَرَضاً- نال منافسُه أحمد شفيق العددَ الأعلى من الأصوات!
إذن لو كان في ما جرى تزوير لصالح محمد مرسي – وهذا ليس ثابتاً ولا مرجحاً – فإن التاريخ لم يكن ليتقدم في مصر بعد ثورة 25 يناير 2011 بدون فوز مرسي! فكيف لو كان "الرئيس المعلِن والمعلَن انتخابه" هو الحاصل الفعلي على العدد الأكبر من أصوات المقترعين. وهذه "واقعة" ولو كانت مرجّحة لم يعد ممكناً التيقّن منها بعد كل أخطاء إدارة المجلس العسكري للوضع الدستوري والبرلماني في الفترة السابقة والمواكبة للجولة الأخيرة من الإنتخابات.
لكن الأمر الأكيد الذي لا شك فيه أن تقدم التاريخ في مصر على طريقه التغييري كان يستلزم فوز مرشّح "الإخوان المسلمين" بعد طول استبعاد قسري عن السلطة منذ عام 1954 ثم استمر على مدى عهود الرؤساء عبد الناصر والسادات و مبارك… نَعَمْ بما فيها عهد السادات الذي وإن كان أتاح لـ"الإخوان" العمل العلني في الحياة العامة ضد أخصامه اليساريين والناصريين إلا أنه بقي كممثلٍ للنظام العسكري الجمهوري محافظاً على خطّ منعهم من الدخول الى "جنّة" السلطة.

من وجهة نظر التقدم التاريخي إذن كان يجب أن يصبح ممثل الحزب المدني الأقوى في مصر منذ ثلاثة عقود على الأقل – والبعض يقول منذ ستة عقود – رئيساً لمصر ضمن مرحلة ما بعد ميدان التحرير. وليس صحيحا القول الذي تردّده بعض النخب العلمانية في مصر أن "الإخوان" سرقوا الثورة. فهم من البداية بل قبل الثورة جزءٌ لايتجزّأ من حركة الإعتراض المديدة ضد النظام الأمني حتى لو أنهم في 25 يناير لم يُطلقوا الشرارة الأولى التي أطلقها الشباب "الفايسبوكيون" في القاهرة والإسكندرية. ولكن لا يمكن قبل ذلك وبعد ذلك تصوّرُ انتشار الإعتراض الذي أسقط النظام في الشارع بدون مشاركة "الإخوان المسلمين".
لكن كل هذه المقدمة، التي تعتبر حتى التزويرَ لو حصل داخل اللجنة العليا للإنتخابات ضرورةً تغييريةً لا تستطيع أن تمنعنا من الإنتقال الى القسم الآخر من هذه المقاربة الشاقة على جميع من يعتبرون أنفسهم سياسياً غير دينيين في العالم العربي (وأنا منهم):
فإذا كان فوز أو "تفويز" الدكتور محمد مرسي ضرورةً لمنطق التقدّم التاريخي في ظروف مابعد الثورة، فالسؤال الجوهري هنا هل هذا التقدم يحصل في الاتجاه الصحيح أو الخاطىء للتاريخ؟ لأن "التاريخ يمكن أن يتقدم في الاتجاه الخطأ" كما قال كارل ماركس في أحد تعبيراته النفّاذة.
… سنرى في السنوات المقبلة في جزء كبير من المنطقة العربية وعلى رأسه مصر هل استلام التيارات الدينية للسلطة هو تقدمٌ تقدميٌّ لدولنا ومجتمعاتنا أم تقدمٌ رجعيٌّ؟ هل هو تكريسٌ لديموقراطية تأتي بالتحديث العصري (في زمن ما بعد الحداثة) أم هو ردةٌ ظلاميةٌ انخرطت فيها فئات واسعة من مجتمعاتنا ونخبنا؟ هل ستتكرّس مع الدينيين الديموقراطية أم أن الدينيين بنقلهم السيطرة السياسية عبر صناديق الإقتراع سيحصِّنون التخلف الذي بدأ يمتد الى مفاصل دولنا بعد بدء سقوط الأنظمة الليبرالية اعتبارا من العام 1948 والتي جاءت من رحم "عصر النهضة" في النصف الأول من القرن العشرين في مصر وسوريا والعراق وليبيا.
دار الزمنُ دورتَه شبهَ الكاملةِ فإذا بالتاريخ الذي لا يمكن التكهّنُ بالأشكال التي يتوالد فيها يأتي بـ"الإخوان المسلمين" على صهوة حصان الديموقراطية ويذهب بالعلمانيين الى هوة السمعة السيئة للإستبداد السياسي.
هل هو انتقام التاريخ؟ لا شك هناك شيء أكيد من ذلك. لكن هذا لا يعني أن "عرس" التيارات الدينية سيطول أمام حجم الأعباء الاقتصادية والإجتماعية التي تنتظرها. ففي بلد مثل مصر بلغت فيه الأزمة السكّانية حدودا ضخمة، يرث "الإخوان" السلطةَ على 85 مليونا هم عدد سكان مصر بينما استلم "الضباط الأحرار" السلطة عام 1952 على ثلاثين مليوناً مصرياً "لا غير" .
لدينا نموذجان في المنطقة. النموذج الايراني والنموذج التركي. لا شك ان النموذج الايراني الشيعي لم يستطع أن يقدّم تجربة مقْنِعةً في المجال التنموي بل هي تجربة قاصرة إن لم تكن متخلّفة اقتصاديا بمعزل عن الانتصارات السياسية التي حقّقتها في محيطها. لكن لو لم تكن إيرانُ دولةَ ريعٍ نفطيٍ يستطيع هذا الريع أن يضخ "مشاريعَها" الأيديولوجية والسياسية بالـ"بترو دولار" أو "البترو يِنْ" او "البترو روبل"… لما استطاعت الممانعة. وتبدو إيران داخل مفارقة نجاحها الإقليمي أقربَ الى النموذج السوفياتي من حيث المسافة الخطرة بين القوة العسكرية من لبنان وسوريا مرورا بالعراق الى الخليج وبين التخلف الاقتصادي البنيوي.
النموذج الآخر هو التركي. فهنا نحن أمام سياق تاريخي طويل من أولوية التحديث الإقتصادي ضمن الدولة الأتاتوركية ذات المرجعية "العميقة" العسكرية التي كان فيها الجيش يتدخل لضبط الحياة السياسية ولكنه، خلافاً لجيوش العالم العربي، كان يعود سريعاً الى ثكناته تاركاً للمدنيين الادارة السياسية "حتى موعد الانقلاب الجديد". لكن هذا النموذج التحديثي على مدى أجيال منذ عام 1923 وَلّد من داخله (لا من خارجه) تياراً دينياً حاملاً لتقاليده التحديثية أو ما سمّتها دراسةٌ لمركز أبحاث ألماني "كالْفينية اسلامية" ستتطور لتحمل معها ليس فقط أفقا اقتصاديا باهرا في السنوات العشر الأخيرة بل إنهاءٌ للسيطرة العسكرية على الحياة السياسية أيضا. لكن السؤال بعد انطلاق دينامية "الربيع العربي" هل بدأ النموذج التركي يفقد بعض اتزانه التحديثي بتورطه تحت وطأة ضغوط الثورات العربية بمغامرات خارجية مجاورة لجنوبه الشاسع كانت الأتاتوركية حاسمة في عدم التورط الثابت فيها ومن مظاهرها نوعٌ من الوجه المذهبي السني لبلدٍ مثل تركيا كان العاملُ المذهبيُّ لا يلعب أيَّ دورٍ في صناعة قراره كدولة علمانية؟

ربما نكون بهذا المعنى أمام بدء نهاية تجربة "حزب العدالة والتنمية" أو بدء انحدارها خصوصا إذا واجهت أزمة اقتصادية، مستبعَدة الآن، تأتيها من الثغرة الخطرة في اقتصادها حاليا وهو العجز التجاري الذي قد تكون فاقَمَتْهُ التحولاتُ في ليبيا وسوريا والعراق. أو من المزيد من التطورات الدامية في المسألة الكردية. لكن حذارِ من تصوُّرِ هذا الاحتمال على أنه سيكون انهياراَ للنموذج التركي. فهذا النموذج مرتبطٌ بالدولة العلمانية وإنجازاتها الاقتصادية ولو كان حالياً تحت القيادة الناجحة اقتصاديا لـ"حزب العدالة والتنمية". إذْ سيستمر "النموذج" بعد "حزب العدالة…" مثلما كان قبله.
أين مصر التي هي ليست ايران ولا تركيا ولكن لديها عناصر مشتركة مع ايران وتركيا؟ فهي أقرب في التخلف الاقتصادي الى ايران واقرب في التكوين المذهبي إلى تركيا ولكن ليس في التكوين الديني بوجود الأقلية الكبيرة القبطية. في حين تجمعها بإيران وتركيا سمات الدولة المركزية الراسخة والتجمعات المدينية الكبيرة.
وبمنطق هذه المقارنة يمكن القول أيضاً ان التكوين الحداثي لـ"الاسلاميين" الأتراك بفعل "التربية" العلمانية هو أعلى مما لدى الإسلاميين المصريين وبالتالي أقل دينيةً لدى الأتراك إذا جاز التعبير. لهذا يمكن تسمية "حزب العدالة والتنمية" التركي، بدون تردّد، حزبَ "يمين وسط" على غرار المسيحيين الديموقراطيين في أوروبا بينما "حركة الإخوان المسلمين" المصريين هي حزب أصولي حتى اليوم… حتى يَثْبتَ أن الوفاقية المصرية قد غيّرتها على رأس السلطة.  

السابق
السفير: الدواليب تحرق الدولة والشارع للزعران!
التالي
حزب الله الى تبديلات في قيادته