منطقة الخليج لن تكون الاستثناء في الربيع العربي.. وهذه الأسباب

هل سيبقى الربيع العربي، الذي يمتد قوسه الآن من تونس في شمال إفريقيا إلى سوريا في غرب آسيا، "شتاء" في منطقة الخليج العربي؟
الأمر يبدو مستحيلاً، لسببين:
الأول، أن أي دولة أو منطقة في القرن الحادي والعشرين المتعولم لاتسطيع ان تعيش في وضع "سري" أو عزلة عما يدور في إقليمها وبقية أنحاء الكرة الأرضية. وهذا يصح على وجه الخصوص في قضايا: المواطنة، وسيادة القانون، والشفافية، والحوكمة الرشيدة، التي تعتبر الآن كلها الركائز الرئيسة للنظام العالمي الحالي المستند إلى ثورتي العولمة الاقتصادية وتكنولوجيا المعلومات.
والثاني، وربما الأهم، أن أحداث الربيع العربي طيلة الشهور الماضية، دلَّت بشكل قاطع على أن ثمة قراراً استراتيجياً دولياً (أميركياً- أوروبياً أساسا) على أعلى المستويات يقضي بوقف التحالف التاريخي بين الغرب الديمقراطي وبين الشرق الاستبدادي، ومن ثَمَ تسهيل إطلاق عملية دمقرطة تمهِّد في وقت لاحق لقيام نظام إقليمي اقتصادي- أمني جديد في الشرق الأوسط. هذا ما كان الأميركيون يطلقون عليه منذ العام 2001 مشروع الشرق الأوسط الكبير، والأوروبيون المبادرة المتوسطية، وهذا مادعا إليه مراراً وزير خارجية "العثمانية الجديدة" داوود أوغلو.

عيِّنات خليجية
الربيع، إذا، لن يكون فصلاً معزولاً أو قصراً على دولة شرق أوسطية دون غيرها. وبالتالي، فهو سيتمدد عاجلاً أم آجلاً إلى منطقة الخليج العربي. لا بل هذا التمدد بدأ بالفعل.
فتقرير لجنة العفو الدولية (Amnesty International) الأخير، كشف النقاب ليس فقط عن ممارسة أـساليب القمع ومصادرة الحريات في المملكة العربية السعودية، بل أيضاً عن وجود آلاف المعتقلين في السجون السعودية. ومع أن بعض هؤلاء المعتقلين متهمون بالانتماء إلى تنظيم القاعدة، إلى أن هذا لاينفي وجود أعداد كبيرة من "سجناء الضمير" الذين حاولوا منذ شباط/فبراير الماضي طرح قضية الإصلاح الديمقراطي، في هذه المملكة التي يعتبر النظام السلطوي فيها الأكثر "سرِّية" في العالم.
ويشير تقرير لجنة العفو إلى أن آلاف المعتقلين هؤلاء سجنوا من دون محاكمة، أو أوقفوا أمام القاضي وهم معصومو العينين وموثقو الأيدي. كما أشار إلى أن نحو 300 شخص، أساساً من المسلمين الشيعة، الذين اشتركوا في مظاهرات سلمية تطالب بالديمقراطية في الأشهر القليلة الماضية، أعتقلوا وسحبت منهم جوازات سفرهم.
وذكر التقرير "أن ممارسات القمع التي تمارسها الحكومة العربية السعودية ضد المطالبين بالديمقراطية مثيرة للقلق، وهي تشبه الممارسات التي طبقت على المتهمين بالقيام بأعمال إرهابية. وكل هذا بهدف منع تمدد المطالبات بالديمقراطية التي تكتسح المنطقة إلى السعودية".
حملة القمع السعودية هذه بدأت في آذار/مارس، أي مباشرة بعد ثورتي تونس ومصر، وهي استهدفت في آن المحتجين على خرق حقوق الإنسان، والمطالبين بالملكية الدستورية، والنساء الداعيات إلى منحهن حق قيادة السيارات، والأهالي المحتجين على سوء الخدمات الصحية والإجتماعية، خاصة في جدة، وأولئك المطالبين بإطلاق سراح ذويهم من المعتقلين.
هل ستنجح هذه الإجراءات في تحصين مملكة السعوديين من رياح الربيع العربي؟
سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. قبل ذلك فلنتابع رحلتنا في منطقة الخليج.

بقية الدول
الكويت، التي تتمتع بديمقراطية نسبية منذ استقلالها في حقبة الستينيات، كانت المرشح الاول، وحتى قبل مقدم الربيع العربي بعقود عدة للتحوّل إلى ملكية دستورية. وهو توقّع وصل إلى ذروته العام 1992 بعد خروج القوات العراقية من البلاد، حين ظن الكثيرون أن الأسرة الحاكمة ستكافيء شعبها الذي تمسّك بها خلال الأزمة الطاحنة التي مرّت لها بتطوير النظام السياسي.
بيد أن هذه التوقعات ذهبت هباء منثورا. فالأسرة استأنفت "العمل كالمعتاد"، وواصلت الإمساك بكل مفاصل السلطة واللعب على وتر التناقضات بين القوى السياسية المتباينة في البلاد. ثم عمدت قبل أيام، عبر المحكمة الدستورية، إلى إسقاط الشرعية عن البرلمان المنتخب.
طيلة فترة الربيع العربي، لم تشهد الكويت موجة احتجاجات شبيهة بتلك التي اكتسحت المنطقة العربية. بيد أن قيام محتجين باقتحام مبنى البرلمان في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أضفى على الكويت قدراً كبيراً ومفاجئاً من ملامح هذا الربيع.
فهذا الحدث الجلل أطلق دعوات الإصلاح من عقالها. فطالب جمعان الحربش، وهو عضو إسلامي في مجلس الأمن الكويتي، بإنهاء حظر الأحزاب السياسية، مشدداً على أن "الدستور الحالي لم يعد يستوعب الحراك في الشارع الكويتي"، وعلى أنه "يجب أن يكون هناك تنظيم للاحزاب السياسية حتى تصبح الكويت ديمقراطية تبني دولة مؤسسات وليس دولة مشيخة، وعشيرة، وقبيلة".

.. وثورة البحرين
في البحرين، التي انضمت بقوة إلى الربيع العربي منذ بداياته وقدّمت العديد من الضحايا والتضحيات، بدا واضحاً طيلة الأشهر القليلة الماضية أن الحل الأمني- العسكري لن يخمد الانتفاضة الشعبية التي أكد تقرير لجنة تحقيق مستقلة عيّنتها الحكومة البحرينية عن أن الانتفاضة البحرينية ألا علاقة لها بإيران (كما كانت تدَّعي السلطات).
وأورد هذا التقرير، الذي وقع في 500 صفحة وتضمن 9000 شهادة، تسلسلاً للأحداث، فوثَّق 46 شهادة، و559 حالة تعذيب، وأكثر من 4000 حالة طرد من العمل بدوافع سياسية في كل من القطاعين العام والخاص. كما انتقد ممارسات أجهزة الأمن "التي استخدمت القوة والأسلحة النارية بطريقة مبالغ فيها، وكانت في العديد من الحالات غير ضرورية وغير متناظرة وعشوائية".
هذه المعطيات أضفت لوناً ربيعياً فاقعاً على الانتفاضة البحرينية، وأسقطت عنها بشطحة قلم كل تهم الطائفية و"العمالة للخارج" والعنف غير القانوني. وهي بالتالي ستشكِّل من الآن فصاعداً معلماً من معالم الحياة السياسية في هذه الجزيرة الصغيرة.
لكن العديد من المحللين يعربون عن قلقهم من تطورات الأوضاع في البحرين بسبب حالة الاستقطاب الحادة التي خلقتها بعض النخب الحاكمة، الأمر الذي قد يشكّل عقبة كأداء أمام أي حوار بين السلطة والمعارضة. فالمتطرفون من كلا الطرفين باتوا يسيطرون الآن على جدول الأعمال السياسي في البلاد.
ويوضح جوست هيلترمان، من مجموعة الأزمات الدولية، : " الشهور الأخيرة من العنف وعدم الثقة مكَّنت المتطرفين لدى كلا الطرفين. في داخل النظام هناك من يحبذون القمع العنيف، ولهؤلاء اليد العليا حاليا. وفي الوقت نفسه، لن تجد حركة الوفاق الشيعية المعتدلة دعماً شعبياً واسعاً بعد الآن لأن العديد من الناس توقفوا عن اعتبارها ممثّلة لهم".

عُمان
عُمان شهدت بدورها تموجات ربيعية منذ أشهر عديدة. فقد برزت فيها سلسلة حركات احتجاجات في هذا البلد الذي كان يعتبر نموذجاً للاستقرار ويُطلق عليه تسمية "الوطن الناعس".
انطلقت المظاهرات من مدينة سحار الصناعية في الشمال، على بعد 230 كيلومتراً من مسقط، إلى صلالة في الجنوب، ثم ما لبثت أن وصلت إلى العاصمة، وأدت إلى مقتل خمسة محتجين وعشرات الجرحى. في البداية، اقتصرت مطالب المحتجين على رفع الأجور وتحسين الأوضاع المعيشية، لكنها سرعان ما تطورت إلى المطالبة بإصلاحات ديموقراطية.
السلطان قابوس تفاعل مع هذه الاحتجاجات بتعديل الحكومة، ورفع الأجور (بعد أن حصل من دول الخليج على وعد بضخ 10 مليارات دولار كمساعدات) وتوفير 50 ألف فرصة عمل. ثم وسّع نسبياً صلاحيات مجلس الشورى، الذي لم تكن له سوى صفة استشارية، لتمكين أعضائه الـ84 من الاشتراك في اقتراح القوانين وأيضاً إدخال تغييرات على قواعد عمل الحكومة. كما تم انتخاب ثلاثة من قادة الاحتجاج إلى مجلس الشورى.
هذه الخطوات الإصلاحية، على محدوديتها، لاتزال حبراً على ورق. إذ لم يتم في الواقع تحديد الصلاحيات الجديدة لمجلس الشورى، ناهيك باختبار كيفية تعامل السلطات السلطانية معها. كما أن اللجنة التي أنيطت بها منذ نيسان/إبريل الماضي مهمة تقديم التوصيات حول كيفية نقل الصلاحيات إلى مجلس الشورى، لم تفعل شيئاً بعد.
لكن، وحتى لو هدأت العاصفة السياسية نسبياً في عُمان، فإن المحللين يشكّون في قدرة السلطات على معالجة الشكاوى الشعبية الاقتصادية والاجتماعية والمطالبة برفع مستوى معيشة الشبان العمانيين، خاصة وأن وعد الدعم الخليجي لايزال هكذا: أي مجرد وعد.
وهذا بدوره، قد يزخِّم مجدداً الموجة الربيعية العمانية.
ماذا الأن عن دولة الإمارات العربية؟
لم تشهد هذه الدولة، التي تحظى فيها أسرها الحاكمة في معظم الإمارات بولاء قبلي- شعبي، موجة احتجاجات شعبية. والحادث الوحيد الذي أثار اهتماماً دولياً كان اعتقال خمسة من نشطاء الديمقراطية الذي أطلق سراحهم لاحقا.
بيد أن السلطات كانت قد عمدت منذ اندلاع ثورات الربيع العربي إلى تشديد القبضة الأمنية على البلاد، والحد من حرية التعبير، وتقييد الحريات الصحافية، في خطوة وُصفت بأنها "ضربة استباقية" لمنع تمدد رياح الربيع العربي إلى الإمارات.

"الربيع الأول"
هذه المعطيات ربما توحي بأن نظم الخليج عصية على التغيير أو التطوير، وقادرة بفضل ثرواتها النفطية الطائلة على "شراء " أمنها الداخلي كما الخارجي.
لكن هذا ليس صحيحا.
فبعد العام 2001، حين اطلقت إدارة بوش "استراتيجية الحرية في الشرق الأوسط"، تحرّكت كل أنظمة الخليج تقريباً نحو إجراء إصلاحات سياسية. وهكذا، بدأت تظهر في المنطقة مجالس استشارية منتخبة، ووعدت حكومة البحرين بإعادة الدستور الذي بقي معلّقاً منذ العام 1975، ومنحت المرأة الخليجية بعض الحقوق، وتم توسيع دائرة الانتخابات المحلية.
لكن، ما أن بدأ التركيز الأميركي ينتقل من الديمقراطية إلى التركيز على الإرهاب، حتى توقفت عجلة الإصلاحات، حتى بصيغتها التجميلية، وعاد القمع يتجدد في دول الخليج قبل سنوات عدة من الربيع العربي. بعض أشكال هذا القمع اتخذ شكل إعادة النظر بقوانين الصحافة، عبر فرض غرامات ضخمة في إطار لائحة طويلة من التهم مثل زعزعة الثقة بالاقتصاد، وخرق القيم العائلية، أو شتم "أولي الأمر" (أي الحكّام) وعائلاتهم. بعض هذه القوانين تم تعزيزها في الأشهر الاخيرة، مثلما حدث في السعودية في نيسان/إبريل 2011 حين عدّل مرسوم من الملك قانون الصحافة والمطبوعات للعام 2000 بهدف حظر نشر أي شيء "يتناقض مع الشريعة الإسلامية" أو "يخدم المصالح الأجنبية" أو "يعرِّض الأمن القومي إلى الخطر".
إصلاحات ما بعد 2001 كان يمكن اعتبارها "الربيع الأول" في الخليج. وزوالها بعد ذلك لايغيّر من هذه الحقيقة شيئاً، وإن كان يشير إلى أن أنظمة الخليج ستبذل الآن كل جهد ممكن لمواجهة موجات الربيع العربي التي تهب الآن من كل مكان، بما في ذلك بالطبع اليمن في شبه الجزيرة العربية.
الطرق التي ستقاوم بها الأنظمة الربيع عديدة وتتمثّل بالتالي:
– مواصلة الحملات الأمنية الداخلية لمنع تبلور معارضة شعبية، أو حتى انتعاش المجتمع المدني.
– الضرب على وتر الحساسيات المذهبية حيث كان ذلك مفيداً.
– استخدام الصراع الإقليمي مع إيران كمبرر قوي لرفع شعار "الأمن أولاً" في الداخل في وجه الجميع.
– مواصلة استخدام أموال النفط لتعزيز الدور الريعي لأنظمة الخليج، ولمحاولة "شراء" الطبقة الوسطى الجديدة والصاعدة، خاصة في المملكة السعودية.
– تشكيل كتلة ملكيات في المنطقة العربية. وهي خطوة تجسّدت في العرض الغريب لضم المغرب القصي والأردن المنغمس في تداعيات الصراع العربي- الإسرائيلي إلى مجلس التعاون الخليجي.
– تحويل مجلس التعاون الخليجي إلى قوة تدخل سريع لمواجهة الانتفاضات في كل دول الخليج، إنطلاقاً من التجربة العسكرية الناجحة (حتى الآن على الأقل) لقوات درع الجزيرة في البحرين. فضلاً عن العمل على إقامة الاتحاد الخليجي.
– وأخيراً، اختراق الربيع العربي في مصر وتونس وليبيا واليمن سوريا وغيرها من الدول، عبر ضخ الأموال الطائلة لدعم الحركات السلفية التي لاتكّن كبير ود للديمقراطية.

السعودية أولاً
هل تنجح كل هذه التوجهات في لجم جماح الربيع العربي في منطقة الخليج؟
التطورات في الدول الخليجية الصغيرة مهمة، لكنها لن تكون حاسمة لمصلحة الانتقال إلى الديمقراطية، كما دلّت على ذلك بجلاء تجربة ثورة البحرين.
فلكي تتوافر الظروف المناسبة للتفتُح الديمقراطي في هذه الدول، يجب أن يبدأ الأمر لأولاً في المملكة السعودية، ليس فقط لأنها أكبر دولة في مجلس التعاون الخليجي (نحو 27 مليون نسمة، بالمقارنة مثلاً مع مليون في كل من الكويت والإمارات، و200 ألف في قطر و500 ألف في البحرين)، بل أيضاً لأن السعودية قادرة على منع أي انفتاح ديمقراطي في الخليج، وبالقوة إذا ما لزم الأمر.
وهذا مايعيدنا إلى السؤال الذي طرحناه في البداية: ما آفاق التغيير في السعودية؟
مقومات هذا التغيير متوافرة في الواقع: مئات آلاف الشباب الذين تلقوا تعليمهم في الغرب الديمقراطي. تصاعد صوت المرأة وقيادتها في بعض الأحيان لمطالب التطوير. طبقة وسطى مأزومة وتعاني من البطالة وشح الموارد. عودة التنافس التاريخي بين نجد والحجاز، وإن بشكل صراع على تطوير النظام.
لكن العامل الأهم قد يكون بروز جيل جديد من الأمراء أكثر ميلاً إلى الحداثة، في شكلها السياسي والاجتماعي، يقومون بتزعّم الحملة لإصلاح النظام من داخله، بدعم من حراك شعبي محتمل لاحق، إن لم يكن في اتجاه الملكية الدستورية فعلى الأقل لدفع المملكة نحو هذا الهدف بالتدريج.
صحيح أن هذا قد يُطلق صراعاً في المملكة بين الأجيال في الأسرة الحاكمة، كما بين التحديثيين وبين القوى المحافظة التي ستتحصّن مجدداً بالإديولوجيا الوهابية الصارمة لمقاومة الإصلاحات، إلا أن ذلك قد يسرِّع أيضاً في ولادة حركة إسلامية جديدة معتدلة (بدعم دولي) يقال أن السعودية تموج بها الآن.
لمن ستكون اليد العليا في هكذا صراع؟
للتحديثيين على الأرجح
لماذا؟
لأن هذا "قضاء" متطلبات العولمة ومستوجباتها، و"قدر"القرار الدولي بتغيير وجه المنطقة وأيضاً لأن حس المواطنة (أي شعور الإنسان بانسانيته وحقوقه وقيمة ذاته) لايتوقف إلا حين يتكلل بالنصر ويتجسّد على أرض الواقع.
هكذا يقول التاريخ في دول العالم. وكما أن المنطقة العربية لم تكن الاستثناء في الموجات الثلاث من ثورات الديمقراطية العالمية، كذلك لن يكون الخليج( وهو جزء عضوي من هذه المنطقة) استثناء.
وعلى أي حال، الطبيعة نفسها تكره الفراغ. والاستثناء هو الفراغ بعينه.  

السابق
الاسد: نعيش حالة حرب.. وسوريا مكان بالغ الخطورة لاستئناف عمل المراقبين
التالي
نحاس: مجلس الوزراء سيقر موضوع البواخر